فخري كريم
عبر أكثر من عقدين، تكاملت شروط انبثاق عصر العولمة، وبدأت بتهديم الحدود الافتراضية بين القارات والبلدان، وبين الأنظمة السياسية وداخلها.
وشيئا فشيئا تراجعت أمامها الضوابط الدولية والوطنية للتجارة وحركة النقد والتعاملات السياسية، وبرزت إلى حياة الناس المعزولين بفعل تدابير حكوماتهم، المستبدة منها على الخصوص، ظاهرة خطيرة، تمثلت بالتواصل بين الأفراد والجماعات والشعوب، وتدفق المعلومات في كل الاتجاهات، بالصوت والكلمة والصورة.
ولم يعد بالإمكان حجب الحقيقة، أو فبركة الوقائع دون مصدات.
إن العولمة بطابعها الموضوعي، بوصفها لحظة تحول،"للتراكم الكمي المعرفي إلى تحول كيفي"، حملت معها تناقضات هذه الظاهرة التاريخية الموضوعية. حيث نفذت البشرية بهذا التحول إلى قلب العمليات الكيمياوية المعقدة من خلال الفمتوثانية، وتعرفت على أسرار الأكوان السحيقة العمق، والتعرف على آليات تحول ((الهباءة)) إلى تمدد ابدي لها.
ومع تحرك هذا التناقض بين الأجسام فائقة الصغر، والأكوان العظيمة الحجوم، أنتج هذا التناقض قطبيه المتعارضين، التسّيد والهيمنة العسكرية الاميركية على العالم ونقيضها، التحرر من كل تسّيد مضاد لتشوّفها الانساني.
فالقرية الكونية التي أعادت صياغة العالم من حيث المسافات والحدود، أو من حيث الأنظمة والقيم، أتاحت للناس دون استثناء سوى التمكن الفردي، غنى المعرفة الموسوعية، ومعايير التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وشروط الحياة الإنسانية.
ومع تحول العالم، إلى قرية كونية، تركزت الثروة البشرية في أيدي حفنة من العوائل والبلدان، وانقسم العالم إلى دول فقيرة ودول غنية، وشعوب تعاني تخمة وأخرى تموت من الفقر والمجاعة والأوبئة. كما انقسمت البلدان الفقيرة نفسها إلى فاحشي الغنى المرتبطين بزواج كاثوليكي مع السلطة، والمعدمين حد التقاط الفضلات، والعيش في المقابر وبيوت الصفيح والموت جوعا ومرضا.
لكن العولمة ارتبطت في جانب خطير من نتائجها، بضياع الأمل!
إذ لم تتكرس وتهيمن إلا اقترانا بانهيار الأنظمة "الاشتراكية" في العالم والحركات الاجتماعية والسياسية الكبرى في العالم الثالث .
فمرحلة العولمة شهدت انهيار" التجارب الاشتراكية" وان لم تكن (هذه التجارب تجسد قيمها وتعبر عن قوانينها وآلياتها، لكنها كانت توحي بأمل التغيير) كما دشنت المرحلة فشل الأحزاب والحركات الكبرى في العالم العربي وتراجعها أمام هجوم الحركات السلفية والظلامية ، فلم تعد الأحزاب الشيوعية والقومية بمختلف أجنحتها تلعب تلك الأدوار الريادية التي كانت قد قامت بها حتى مشارف التسعينيات من القرن الماضي .. وذلك مع الإقرار بان القمع وشمولية الأنظمة وطابعها البوليسي كان وراء هذا التراجع نسبيا، لكن العامل الأساس ظل مرتبطا بجمود هذه الأحزاب والحركات، وضعف قدرتها على التقاط نبض الشارع وتخلفها عن دراسة الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة وعدم انبرائها لصياغة الأساليب والأدوات التي تتطلبها هذه الظاهرات للارتقاء إلى مستوى التحديات الجديدة ومهامها الملموسة ومدى استعداد القطاعات الشعبية للتفاعل معها.
وهذا كله ضيق فسحة الأمل ، وحول اللا مبالاة والانكفاء الى ظاهرة سياسية .
كما لعب انتقال أحزاب "قومانية" وقوى برجوازية عسكرية صغيرة الى السلطة وتبنيها لبرامج وشعارات"تقدمية" او "اشتراكية" ملفقة دورا في خلط الأوراق والعبث بأفكار ومفاهيم الأوساط الشعبية ودفعها إلى حافة اليأس مع ما عمدت اليه هذه الأنظمة من أساليب بطش وتصفيات سياسية وانفراد في الحكم وتوريث له ونهب وسلب لثروات البلاد باسم " الثورة " مما كان لذلك ابلغ الأثر في تكريس الانتكاسات التي حلت في سائر البلدان العربية .
يضاف الى ذلك مشاركة الاحزاب المذكورة في الصيغ" التحالفية" المتواطئة مع هذه الأنظمة من قبل الأحزاب والحركات اليسارية والتقدمية وتبريرها لتلك الأنظمة سياسياً ونظرياً، مما أدى إلى نتائج وخيمة على المزاج السياسي العام والنكوص الى مواقع اللامبالاة والاعتكاف، وفي حالات كثيرة الانتقال والتحول الى السلفية، بل إلى أكثر الحركات ظلامية مثل القاعدة وغيرها من الأحزاب المتلفعة بعباءة الدين .
إن انغلاق أفق التغيير أمام الكتل الاجتماعية الكبرى في البلدان العربية، ويأسها من "جنة الأرض" فتح الأبواب على مصاريعها أمام شتى الحركات والدعوات التي عملت على صرف أنظار الناس نحو قوى وجهات لا علاقة لها بظروف الواقع الاجتماعي والسياسي التي كانت ولا تزال السبب المباشر لما تعاني منه الجماهير من بؤس وشقاء وتردٍ وهو ما مكّن المتسلطين من المزيد من النهب والفساد والتسلط وسلب الحقوق والحريات بوتائر لم تشهدها بلداننا ، قبل حقبة انتقال السلطة "إلى النخب الثوروية" العسكرية وواجهاتها المدنية، والأمثلة البارزة في هذا السياق يرمز لها عراق صدام حسين وليبيا ويمن العقيدين القذافي و صالح وتونس زين العابدين ومصر حسني مبارك وغيرها من أنظمة تراقب "تسونامي" كما لو انها غير معنية بما يجري او انها لا تدرك انه سيواصل التقدم زاحفا اليها .
لقد أدت هذه التراجعات فراغ سياسي وأفقرت البلدان العربية من قيادات وأحزاب ، كانت تحمل الأمل في التغيير خصوصا مع مراوحة الأحزاب التغييرية في حدود نخبها وأطرها دون أن تستطيع ببرامجها ووسائلها وأدواتها وأساليب عملها من الفعل والتأثير في ظل ظروف متغيرة تتطلب حركات جماهيرية مليونية ناهضة .
إن هذا التوصيف السلبي، لا يعني التقليل من شأن هذه الحركات والأحزاب ودورها التاريخي في نشر الوعي السياسي والاجتماعي والاحتجاجي، برغم أنها ظلت أسيرة ضيق أفق في اكتشاف الجديد المتوثب.
وأمام هذه القوى اليوم فرصة المبادرة بالانخراط في هذه الحركة، والعودة إلى منطلقاتها المحركة ، تفكيرا وبحثاً واستقصاء في عمق الظاهرات الاجتماعية الجديدة مما يمكنها من التحول الى طرف فاعل في ما يجري اليوم من نهوض وتوثب "الأكثرية الصامتة".
لكن مثل هذا التحول يتطلب قدرا من الجرأة وتجاوز الذات ودرجة عالية من الشجاعة الفكرية والسياسية .
هذه هي المقدمات الموضوعية للظاهرة الاجتماعية والثورية العاصفة.
فما هي ملامح هذا الزمن ،.... زمن"الأكثرية الصامتة" ؟