فخري كريم
-3 -
إذا تجاوزنا الانقلابات العسكرية الظرفية، في كل من سورية والعراق في النصف الأول من القرن الماضي،
فان انقلاب تموز/يوليو 1952 في مصر، شكل فاتحة عصر الانقلابات العسكرية الوطنية في العالم العربي، وتسيدها كظاهرة سياسية سائدة. فانقلاب يوليو (تموز)، الذي تحول بقرار سياسي إلى ثورة وطنية تحررية، والذي أرخ لمرحلة جديدة، لم يشكل بنموذجه، نمطا موصوفا
، وأداة "عسكرية" للتحول السياسي والاجتماعي فحسب، بل وكرس "مفهوما قيمياً متكاملا لشكل الحكم الوطني"، وما ينبغي أن يكون عليه الحكم من نهج سياسي واجتماعي واقتصادي، كما أطره أيدلوجياً وتنظيمياً وثقافياً، وتبلور عبر سلسلة متكررة من "التجربة والخطأ" التي أصبحت هي الأخرى فلسفة للحكم.
ومن هذا "المعطف الانقلابي الوطني" ولد عالم عربي يقوده عسكريون ذوو مراتب وسطى، ينحدرون من الريف أو الأطراف، وتغلب عليهم، سيماء البرجوازية الصغيرة أو الملاكين الصغار.
لقد اعتُبرت الانقلابات العسكرية التي أنهت الأنظمة الملكية الجائرة، "هبة" و"نعمة"، بعد أن عجزت الأحزاب والحركات الوطنية عن إجراء أي تغيير في تركيبة تلك الأنظمة رغم نضالاتها وتضحياتها الكبيرة. بل أن بعضها بدا متواطئاً، تفسخ في مجرى مناوراته، وفقد مصداقيته.
وفي مثل هذا المناخ الذي ساد فيه التخلف والأمية ولم تتبلور فيه الطبقات الاجتماعية وتعبيراتها السياسية، تمكن "الضباط الأحرار" من بسط نفوذهم كبديل وطني للإنقاذ وكصيغة للحكم تنشد تحقيق تحولات اجتماعية-اقتصادية من شأنها خلق طفرة نوعية في الريف السائد، وإنشاء قاعدة صناعية وطنية، تعيد الاعتبار للمواطن الفلاح والمواطن العامل كقاعدة للمواطنة الحرة المتساوية.
إن التكوين الضعيف للأحزاب والحركات الاجتماعية، وعدم نضوج تجربتها، ليس بمعزل عن أنماط الحكم الاستبدادية، ساعد على ترويض "المجتمع"، للقبول بالأنظمة التي جاءت بها الانقلابات العسكرية، بل وتبنتها حتى الأحزاب السياسية كأسلوب للتغيير لا بد منه وبالتالي للحكم أيضاً.
لقد انطلقت جميع الانقلابات التي شكلت "العصر الجديد" في العالم العربي في إطار حركة التحرر الوطني، وهدفها المباشر الإطاحة بالأنظمة الرجعية الخاضعة للنفوذ والمصالح الامبريالية. وبتحقيقها لهذا الهدف، قدمت نفسها كممثل لإرادة الشعب ومعبر عن مصالحه في التحرر والتطور.
ولم تجد السلطات الناشئة عن هذه الانقلابات من وسيلة لتحقيق ذلك، كمرحلة انتقالية، سوى نشر ضباطها لقيادة الدولة بكل مرافقها الحيوية، "منطلقين" من الرغبة والنية الصادقة في "تهذيب" الحركة السياسية، و"تأهيل" المجتمع لتسليم السلطة إلى الشعب والعودة إلى الثكنات. لكن التهذيب، "والتأهيل" لم يكتملا، إذ دخلت المجتمعات العربية التي سادتها الحركات العسكرية، والقوى السياسية في صراعات مريرة مع الحكام الجدد للحفاظ أو لاستعادة بعض المكتسبات التي كانت تنعم بها في ظل الأنظمة البائدة، وللحيلولة دون قضم حرياتها والتجاوز على حقوقها، تحت واجهة توطيد النظام الوطني، والتصدي للتآمر عليه، ودرء المخاطر عنه.
وبدلاً من المرحلة الانتقالية التي امتدت، كان يتم وبوتائر متسارعة عنيفة، عسكرة المجتمعات العربية، ولتتحول السلطات الثورية إلى أنظمة توليتارية، اتخذت لها واجهات مدنية، كحزب أو اتحاد اشتراكي، أو جماهيرية، تطورت مع مرور السنين إلى حكم للحزب الواحد أو الطغمة الواحدة، أو العائلة والعشيرة.
إن أي وطني منصف لا يمكنه نكران وطنية جمال عبد الناصر وصدقيته في تحرير بلده من الاستعمار والتبعية، كذلك نواياه في تطوره وتقدمه.
لكن هذا الإقرار، لا يلغي بأي شكل كان تأسيسه لنمط في الحكم، أدى إلى عسكرة الدول العربية التي سادتها الانقلابات العسكرية (الوطنية) وخلقت طغماً وأنظمة دكتاتورية، صادرت إرادة الشعب وبددت ثروات البلاد، وفككت نسيج المجتمع وأعادت إنتاج أكثر القيم والعادات تخلفاً، وانتهت إلى تكريس نمط جديد من الجمهوريات الاستبدادية الوراثية. يكفي إيراد نموذجي صدام حسين والقذافي، للتعبير عن هذا الموروث السياسي المدمر لعصر الانقلابات العسكرية "الوطنية".
وأيا كانت المآثر والمنجزات التي حققها عبد الناصر، فأن مآلها، وضعت العالم العربي وشعوب "الانقلابيين العسكريين" في مواجهة نتائج كارثية في جميع الميادين، حتى على صعيد شعارها القومي المقدس "تحرير فلسطين"، وما انتهت إليه من هزيمة، ما زلنا نعيش تداعياتها ونتائجها.
وإذا جردنا حصيلة ستة عقود منذ الانقلاب "الوطني" التأسيسي في مصر حتى الآن، لانتهينا إلى مأزق لا فكاك منه. فقد حصدت شعوبنا ثقافة مشوهة، تموه، الهزائم والإخفاقات والاستبداد، وتقدمها بصيغة أغنية وقصيدة ومقالة وضروب من الفن السيئ يمجدها، ويجعلها تفرداً وإعجازا وطنياً، وأحيانا "فلتة" وهكذا قدم "مبدعون" عرب صدام حسين والقذافي وأمثالهما.
وإذا كان عبد الناصر في صعوده، يحفز على مثل هذا الخلق، فان وطنيته لم تمنعه من ابتكار شتى أساليب الردع ومصادرة الحريات وتكريس سلطة الفرد المطلقة، والتمهيد بذلك كله، لمرحلة نائبه أنور السادات وخليفته حسني مبارك.
لقد أنجزت تلك المرحلة، بجهد فكري وثقافي "خلاق" صيغة "الحكم الوطني" في مواجهة الديمقراطية التي قننت مفاهيمها لتعبر عن طبيعة ذلك الحكم، لكن مأثرتها التي تكرست في ما أعقبها من حكم أولاد الانقلابات العسكرية تجسدت في مفهوم "الوطني المستبد" ،كتطوير للمستبد العادل الذي تمثل في أباطرة وملوك وأمراء، حيث تجاوز "وعاظ السلاطين" طغيانهم، مقابل التمجيد بمواقف في مواجهة عدو خارجي، أو انجازات عمرانية أو ما يماثلها، وإهمال تلويث مناخات الوطن بعذابات "العبيد" والرعايا مسلوبي الحياة.
إن نموذجاً كاملا لما أدت إليه سلسلة "التجربة والخطأ" في مصر، أثقلت كاهل شعبنا العراقي، وأغرقت وطننا بدماء مئات الآلاف منذ انقلاب 1963 الفاشي، مرورا بالانقلابات الأخرى، وصولا إلى حكم الطاغية صدام حسين.
وربما ستنعم شعوبنا براحة البال، وهي تودع "مسخ الناصرية" - المخبول معمر القذافي، وعلي عبد الله صالح التلميذ السيئ لصدام حسين، وأشباه رجال آخرين، تتصاعد الدعوات من شعوبهم لعلها تنعم براحة البال هذه.
إن شعبنا العراقي الذي استنفد كل رصيد صبره على تحمل مظالم الدكتاتوريات المتعاقبة، لن يجد نفسه في حالة تراض ومساومة مع أي حكم لا يرضخ لإرادته الكاملة، فقد نفد صبره، وحان لمن يأتمر بأمره "ديمقراطياً" عبر صناديق الاقتراع، أن يدرك ذلك.
برحيل بن علي، ومبارك، وقرب رحيل العقيدين، وأشباه آخرين، نكون قد انتقلنا إلى نهاية حقبة "العسكرة الوطنية" لتنتهي معها الوطنية المجردة كتعويذة، دون أن تستند إلى نظام ديمقراطي في إطار دولة مدنية متحضرة يشعر معها المواطن بالكرامة وبحقوق طالما ديست بجزمات العسكر وبجشع الطغاة