فخري كريم
قبل ما يقرب من الأربع سنوات كانت المدى قد نشرت افتتاحيتها التي نستعيدها اليوم هنا. في هذه الافتتاحية جرى التنبيه إلى حالة قد تكون بدت للبعض شكلية،
وكان هذا التصور يتأتى من الطابع الشكلي المفرغ من أي محتوى للألقاب التي طفت إلى السطح في الحياة السياسية العامة،
وبدت وكأنها جزء من التعبير عن حاجة تكميلية إلى وجاهات مضاعة يفتقد إليها البعض ممن لم تشبع حاجاته الامتيازات والمناصب والنعم التي باتت تحصيل حاصل لكل من يجد طريقه إلى تلك المناصب.
لكن الافتتاحية لم تكن معنية بهذا الطابع الفارغ قدر ما كانت ترمي إلى التنبيه على تراتبية أخرى رديفة من الممكن أن تكرسها الامتيازات والتباين الهائل في المداخيل، ومن ثم انعزال الطبقة الجديدة، بامتيازاتها ومراكز نفوذها وبألقابها، عن العوام، بفقرهم وانعدام حالهم وبنسيانهم في الهوامش، وهذا ما حصل فعلا خلال السنوات الماضية التي ازدادت فيها المبالغات في الألقاب والتوصيفات والامتيازات وزاد الإمعان في نسيان العامة وإهمالهم وانعدام خدماتهم.
نعيد هنا نشر الافتتاحية، وما زال ثمة أمل فينا في أن هناك من يقرأ ومن يستطيع أن يتخذ قرارا بإيقاف هذا التصرف الاعتباطي بالألقاب ومنع تداولها رسميا، وهي إجراءات لا تشكل في مجملها ثلما لامتيازات مادية ولا إنقاصا لاعتبارات وظيفية ولا تتعارض مع مبدأ المحاصصة العتيد، بحيث يصعب اتخاذ قرار فيها، لكنها قد تؤشر للناس قيمة الحياة السياسية في تنظيف نفسها من أدران وأوهام ألصقت بها من قبل من يملأ فراغه الحقيقي بالوهم.
مجلس النواب وأعضاؤه هم الجهة الأساسية القادرة والمطالبة باتخاذ هذا الإجراء، قبل أن نتوقع إقدام المجلس وأعضائه على اجراءات أخرى أكثـر عملية وواقعية تمس حياة الناس اليومية،وليس هذا بالمستحيل على المجلس.
أحيت جهات غير معلومة، في غفلة من الدولة التي أٌطيح بها، تقاليد بروتوكولية وألقاباً، غابت عن وعي العراقيين وممارساتهم منذ نصف قرن، بعد أن أطاحت ثورة 14 تموز 1958 بالملكية وبروتوكولاتها، وبضمنها ألقاب الفخامة والسعادة والمعالي بالإضافة إلى الباشوية، التي تندر بها الناس، كلما عنّ لهم السخرية من شخصية عامة.
والألقاب بحد ذاتها، لا ضرر منها ولا قيمة لها، لا ترفع قامة ولا تقصر غيرها. فالزائر إلى مصر، أياً كان مقامه السياسي والاجتماعي، او درجته الوظيفية، "يشبع" من لقب الباشا أينما توجه، كبادرة احترام، وربما كسخرية مبطنة يُنفّس من خلالها المُهمّشون، غيظهم، مما هم فيه من شظف العيش وعسر الحياة، وما يرفل فيه باشوات عصر العولمة من التخمة.
كما يندر أن لا يلقب حامل حقيبة دبلوماسية، أو مستخدم عدسات طبية، بسبب قصر نظره، بغير "لقب دكتور"، حتى وان كان في واقع الحال رجل أعمال أو تاجراً شبه متعلم أو حتى عتّالاً "افنديا" لا يقرأ ولا يكتب، يرافق اميراً او مسؤولاً حكومياً رفيعاًً!
لكن الالقاب في الحالات الاخرى، تعكس ثقافة طبقية مراتبية، وترمز الى السلطة والامتيازات والمكانة الاجتماعية.
ان الغفلة التي اقحمت فيها القاب الفخامة والسعادة والمعالي على رجالات دولة العراق الجديد، الديمقراطي، ظلت حتى الآن شكلية، يفترض فيها أن تزول مع انتهاء التكليف الرسمي، لكنها لن تظل كذلك، إذا ما استقرت في الوعي العام، مثل مظاهر أخرى تستدرجنا يومياً بدواعي، التصدي للإرهاب، والعنف، وتكريس سلطة الدولة، والقانون، الى اعتماد، ما يشكل في الجوهر أدوات ووسائل للقمع، تتعارض مع الأسس الضامنة لدولة القانون وحقوق الإنسان والحريات، مثل استخدام العنف المفرط، أو التوقيف الكيفي، أو استحداث أجهزة أمنية ومخابراتية متعددة الهياكل والأهداف.
والغريب أن قادة العراق الجديد، خلافاً لتقاليدهم الحزبية والسياسية،... ولثقافة العراقيين الديمقراطية، سرعان ما تكيّفوا مع هذه الألقاب، واستطابوها، رغم أن دولة، بيروقراطية البروتوكول، مثل لبنان ألغتها بمرسوم، وان اكبر دولة عربية من حيث نسبة السكان والتأثير السياسي كمصر، لم تَعد إلى تداولها بعد أن ألغتها ثورة يوليو 1952.
فهل لهذا الاستخدام "المفرط" للألقاب "الملكية" في وعي قادة دولتنا الديمقراطية، دواعٍ غير شكلية؟ ليس في واقع الحال، ما يلغي الهواجس والشكوك، ويبعث على الاطمئنان.
فإذا تجاوزنا مرحلة إدارة "القيصر" بول بريمر الانتقالية، وما شهدته من تجاوزات على المال والشأن العام، او من العطايا والرشاوى والمقاولات بـ "الباطن"... فان من بين مآثر حكومة الدكتور إياد علاوي ومعاونيه، إصدار قرارات ومراسيم لها قوة القانون، تكرس امتيازات نفعية لمن يغادر المسؤولية، تثقِل أعباء الدولة، لا مثيل لها، كما هو معروف في الأقل، في أي نظام أو دولة، إذا استثنينا، الملكيات والإمارات والأنظمة الشمولية.
وهذه الامتيازات لا تقتصر على الرواتب التقاعدية المجزية، التي تصل إلى 80% من الراتب، حتى وان خدم المسؤول بضعة أسابيع، ولربما بضعة أيام!، بل إبقاء العقارات والسيارات المصفحة وعشرات المرافقين، وغير ذلك مما لا علم لنا به تحت تصرفهم وهم خارج المسؤولية. "ومن بين هؤلاء المسؤولين المنتهية ولايتهم" من يمتلك أكثر من "فيلا" ومكتب ومنشآت، وبيوت سكرتارية وموظفين.
ان نظرة سريعة إلى أحوال عدد من المسؤولين السابقين والحاليين، تكفي لمعرفة "تغيّر أحوالهم" الملفت. فكل واحد منهم تقريباً أصبح بين ليلة وضحاها، مالك جريدة وإذاعة وفضائية. ومنهم من يتنقل بالطائرات الخاصة التي يشحذها من هذا البلد او ذاك، مستنكفاً التنقل بين البلدان بركوب الطائرات مع مواطنيه.
ومن غير المجدي البحث عن ممتلكات بعض هؤلاء في بلدان أخرى، او في منافي اللجوء التي كانت دوائر الهجرة او الخدمات الانسانية تتصدق عليهم بمنح اللاجئين الشهرية.
ولو بقي الامر على الامتيازات المالية لكان هيناً، فهؤلاء القادة الذين احتفى بهم الشعب، كبُناة عراق ديمقراطي جديد يرفل بالعدالة الاجتماعية والمساواة والرحمة، يتحولون مع تطور الأوضاع إلى طبقة مهيمنة، تحاول عبر وسائلها، وهي كثيرة، تطويع قوانين الدولة لحماية امتيازاتها ومواقعها المتنفذة، وما تنويه او تخطط له.
والأخطر من ذلك، ان انعزال هؤلاء القادة حتى عن جمهورهم ومريديهم، وهم يقدمون مثلاً بسلوكهم هذا للجيل الجديد من الساسة، ومن بينهم من اعيد تأهيله وتسويقه من بقايا النظام السابق، يضعف الاحساس العام، والثقة بامكانية ارساء أسس وطيدة لديمقراطية تكفل الحقوق والحريات، وتبعد اي احتمال لإعادة تشكيل نظام استبدادي بواجهة جديدة.
ان المرحلة الصعبة المعقدة التي تجتازها البلاد، تقتضي ضمان حياة القادة والمسؤولين بمختلف مراتبهم، و لا ضير في تأمين ذلك،... ولكن ألا يرى نواب الشعب، المشرِّعون، أن "الإفراط" في الامتيازات والحصانات، مثل "الإفراط" في العنف، يضعف الثقة، ويبدد الآمال؟
بقي ان نقترح على نوابنا الاشاوس، إصدار "قرار رئاسي"، يعتبر الألقاب "المفرطة في المهابة" بلا مسوغ قانوني. ولعل في لقب السيادة ما يكفي ويزيد، في دولة هي نفسها في طور التكوين، ناقصة السيادة.