TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية: الدولة المنسية.. وثلاثية الفساد والإرهاب والطائفية

الافتتاحية: الدولة المنسية.. وثلاثية الفساد والإرهاب والطائفية

نشر في: 21 إبريل, 2011: 07:30 م

 فخري كريم

(١)

 كان من الممكن أن تشكل لحظة سقوط الدكتاتورية في ٩ نيسان ٢٠٠٣ منعطفا تاريخيا لا تنتهي فيه، الحقبة الاستبدادية وارثها حسب،

وإنما يتم فيه ايضا إرساء الأسس السياسية والقانونية والأخلاقية، لإيقاف مسلسل التصفيات السياسية بوسائل القمع للخصوم وحَمَلَة الرأي الآخر والمختلف.

هذا ما كان يتوقعه المواطنون بمختلف مشاربهم السياسية والفكرية والتكوينية ، وبضمنهم القاعدة الاجتماعية الواسعة التي ارتبطت بالنظام السابق ، على غير هوى منها واقتناع ، بعد أن أصبح الانتماء لحزب البعث وإعلان الولاء له ، شرطاً لانجاز أي معاملة او توظيف او دراسة وتدريس او إجازة مرور. ولم تكن الجامعات  والتجارة او الجيش والقوات المسلحة ومؤسسات الدولة بكل مرافقها بمنأى عن هذا الشرط القسري الملزم.. وفي  هذا السياق، وفي اطار التوجه لتبعيث الدولة والمجتمع ، شرع " مجلس قيادة الثورة " سلسلة من القوانين الجائرة، اعتبر بموجبها حزب البعث العربي الاشتراكي ، الحزب القائد للدولة والمجتمع، وإيديولوجيته مصدراً وحيداً للإلهام والتوعية والتأهيل بدءاً من رياض الأطفال حتى دُور العَجزة . وحرّم العمل السياسي والتنظيمي والتعبوي لغير حزب البعث ، في جميع القطاعات والمنشآت الحيوية، ومرافق الدولة الحساسة، وفي مقدمة هذه المؤسسات القوات المسلحة والجيش والأمن والمخابرات . ولضمان التضييق على أي خروج عن هذا التوجه ، تم سن قانون يحكم بالإعدام على كل منتمٍ لحزب البعث تسول له نفسه الخروج منه والانضمام إلى أي حزب او تنظيم آخر ، حتى إذا كان حليفا للبعث او موالياً له . واقترن هذا التوجه التبعيثي بعسكرة المجتمع وإيجاد اطرٍ لتطبيقه ، في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعات، ثم في سائر دوائر الدولة والقطاعات الأخرى التي لا تطالها هذه التوصيفات ، ومن هذه الأدوات فدائيو صدام وجيش القدس . وبهذه الحزمة شدد من قبضة البعث والنظام على المواطنين وضيّق عليهم الخناق ، وحال بين المواطنين العازفين عن هذا الانتماء واللجوء إلى أي تدبير او مناورة .

ويتبين من كل هذا ، ان ملايين العراقيين الذين سُجّلوا قسراً ولاعتبارات مختلفة في البعث ، خلافاً للقناعة الإيديولوجية والسياسية ، أصبحوا بعثيين وان " لم يؤمنوا " ، مثلما أصبح الآخرون من المواطنين الذين شاء حظهم أن لا يواجهوا محنة الانضمام القسري إلى حزب السلطة " بعثيين وان لم ينتموا " كما أطلق عليهم صدام حسين ، إمعاناً في حصارهم .

 ويتذكر من كانت لهم قرابات او صداقات مع كثرةٍ من هؤلاء المنتمين ، ان بعضهم كان يعيش لحظات كابوسية حينما كان يتلقى " التشريف " دون إرادة منه بالتقديم في المهمات الحزبية ، التي قد توحي له بالتصفية لأية هفوة يصدف أن يرتكبها خلافاً لإرادته او بلا وعي منه . وليس هذا السرد لحقائق الوضع الملتبس في ظل النظام البعثي السابق ، تزكية لمن كانوا القاعدة الفعلية للبعث ولنظامه ، او لأولئك الذين كانوا أدواته ومنفذي جرائمه وارتكاباته بحق الشعب العراقي او من واصلوا حمل رسالته الإيديولوجية الفاشية متفاخرين بـ" عروس ثورته " وزانياته الأخريات عبر عقود سلطته وحتى اليوم . فهؤلاء طغمة معروفة ، لا ينبغي إسدال الستار على جرائمهم تحت أي شعار او مبرر ، ولا بد لكل منهم أن يأخذ جزاءه وعقوبته أمام القضاء العادل وليس بأي وسيلة انتقامية أخرى .

لقد انهار النظام الدكتاتوري في ظرف تميز باشتداد عزلة ذلك النظام شعبياً ، بغض النظر عن المظاهر الخادعة، التي كان يروج لها الدكتاتور ولم تقتصر تلك العزلة على الأوساط الشعبية التي أنهكها الحصار والتدابير القمعية ، بل شمل الجيش والقوات المسلحة التي أُذلّت كرامتها وأُهينت مراتبها وأُلحقت بها الهزائم والانكسارات في المغامرات الطائشة للدكتاتور ومن خلال تهميش قيادتها على أيدي أبنائه وزبانيته ، ويكفي الإشارة إلى ما بدا استسلاماً مذلاً للجيش والقوات المسلحة أمام القوات المتعددة الجنسية نهار ٩ نيسان وغياب أي مظهر " للمقاومة " عسكرياً وسياسيا . وهو في واقع الحال لم يكن إلا تعبيرا بليغاً ، باللغة العسكرية عن رفض النظام والتمرد السلبي عليه . وتكتمل صورة هذا الموقف بترك الجنود والمراتب والضباط لمواقعهم وقطعاتهم والعودة إلى بيوتهم ومناطق سكناهم ، بل انهم كانوا قد تهيأوا مسبقا لمثل هذا الموقف ، بجلب ملابسهم المدنية " الشعبية " معهم.!

 إن هذا الموقف الكامن ، الذي جرى التعبير عنه بالصيغة المذكورة ، لم يكن ليكتمل ، دون  إبراز ملامحه الأخرى في المشهد الشعبي الذي ظهر للعيان على العالم المتقطع الأنفاس ، وهو يتابع شاشات القنوات العربية والعالمية التي تنقل خروج المواطنين الى الشوارع وأمام البيوت وفوق السطوح ، وعلامات الفرح والأمل تغمر وجوههم ، لا ترحيباً بالاحتلال وإنما سعادة بالخلاص من الطاغية ونظامه .

هذا المشهد وتلك اللحظات التي اكتملت فيها ملامحه ، كانت تعبيراً عن انعطافة تاريخية لإسدال الستار على عقودٍ من الاستبداد ومصادرة إرادة الشعب ، وتكريس مصالحة مجتمعية ، سياسية وأخلاقية ، تنخرط فيها القاعدة الاجتماعية بكل تجلياتها ، بمن فيهم المنضوون في صفوف البعث وان لم " يؤمنوا " او المنتمون "على كراهةٍ منهم "  او " البعثيون وان لم ينتموا "، وتتوحد من خلالها إرادتهم مع أنصار التغيير ،  في احتضان النظام الجديد وتكريس أسسه الديمقراطية على قاعدة المواطنة والحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية . وبمثل هذه الخطوة الوطنية الحكيمة كان ينبغي أن يتم فرز وعزل فلول البعث والقيادات والكوادر المؤدلجة بـ" بإيمان " وطواعية على مواصلة حمل الراية المهلهلة للاستبداد ، وكان ممكناً عبر ذلك أيضا تشديد الخناق عليهم بأدواتهم السابقة ، وتجفيف مصادر تأمين حمايتهم ومد يد العون لهم او ترتيب خطوط إعادة تحركاتهم  ، والاهم في ذلك كله ، تصفية المناخ السياسي والاجتماعي الذي يستظلون به.

لكن أحدا لم يمسك هذه اللحظة التاريخية النادرة، ولم يلتفت إلى ما توحي به ملامحها الايجابية ومغزاها. ان ضياع تلك اللحظة، أشر لمرحلة التحول من التصفيات الجسدية التي كرسها النظام الدكتاتوري المستبد ضد الشعب ، الى التصفيات على الهوية بين الطوائف والملل والمكونات ، وإعادة الاصطفاف الاجتماعي والسياسي على أساسه ، وضاعت في خضم الجرائم التي ارتكبت تحت لافتاته الفرصة التاريخية للمصالحة الحقيقية وترميم النسيج الوطني العراقي.

فكيف يمكن تجاوز نتائج وتداعيات خيبة ضياع فرصة المصالحة الوطنية المجتمعية الحقيقية ، والتأسيس لانبثاقها من جديد؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram