د.قاسم حسين صالح
تعدّ تظاهرات الفاتح من تشرين/اكتوبر 2019 حدثاً غير مسبوق في تاريخ العراق السياسي من حيث حجم التظاهرات والضحايا الذين زاد عددهم على أربعمائة شهيد وأكثر من (18) ألف مصاب..
ومطاولتها ضد عنف مفرط من سلطة استخدمت الرصاص الحي والمطاطي وقنابل استهدفت رؤوس وصدور المتظاهرين في نظام يعتمد دستوراً يقر فيه إنه ديمقراطي.
فما الأسباب التي انفردت به هذه الانتفاضة (الثورة)؟وما تحليل ما حدث وسيحدث من منظور علم النفس والاجتماع السياسي؟.
العراقيون..يصححون غوستاف لوبون
يعدّ عالم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون(1841-1931) أفضل من حلل الانتفاضات والثورات في كتابه (سيكولوجية الجماهير) عبر متابعته للثورة الفرنسية والأحداث التي شهدتها أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر..ففيه قدم علماً جديداً وفهماً استثنائياً لما يحكم سلوك الجماهير حين ينتفضون أو يثورون ضد سلطة استبدادية..نلخص أهمها بالآتي:
• يرى لوبون أن شخصية المتظاهر تتلاشى كفرد حين يكون بين الجماهير،فلا ينفعه ذكاؤه ولا علمه من اتخاذ قرارات منطقية سليمة ،بل سيتحمس لأفكار بسيطة بفعل التحريض والعدوى للعواطف والأفكار.
• وإنّ هذه الجماهير تتحكم بها الأوهام ولا تبحث عن الحقائق،وإنه يتم اقناعها والسيطرة عليها بسهولة من خلال وعود مضخمة أو العزف على أوتار حساسة تستهدف لاوعي تلك الجماهير كأن يكون وتراً دينياً،أو طائفياً ،أو عرقياً.
• وإن الجماهير لا تبحث عن الحقيقة علمياً وعملياً كما يفعل الفرد بل تعتمد البساطة في السعي لتحقيق أهدافها.
• وإن العاطفة الدّينية هي التي أشعلت الانتفاضات الكبرى،وأنها تمتلك قوّة مخيفة تجعل الجماهير تخضع لها بشكل أعمى، فتمضي بعزم لحماية تلك العاطفة،وتعدّ كلّ من يرفضها عدوّاً.
• وإنّ الجمهور يضعف ويفقد قوّته دون قائد،ويريد أن يكون له زعيم يقوده ويمتثل لأوامره،لأن ما يهيمن على الجماهير ليس التوق الى الحرية بل الخضوع الغريزي لزعيم يقودها.
تصحيح مقولات لوبون
بالرغم من أن مقولات أو (تنظير) لوبون تنطبق على التظاهرات والانتفاضات التي حدثت في العالم العربي بما فيها تظاهرات العراق من شباط 2011 الى تظاهرات آب 2018،فإن أحداث تشرين 2019 وفرت لنا إضافة معرفية جديدة(تنظير) يقدمها العراق لعلم النفس العالمي..نوجزها بالآتي:
لم يكن لجمهور المتظاهرين قائد أو زعيم..بل إنه رفض ذلك، ولم تضعف قوته بل ازدادت بالرغم من أن الحكومة ازدادت قسوة في تعاملها مع المتظاهرين وصلت حد ارتكاب مجازر بشرية في الناصرية والنجف،ولم تشعل العاطفة الدينية انتفاضة تشرين، بل العكس فإن جمهورها سخر من أحزاب دينية ورموز دينية تعد مقدسة ومزق صور رجال دين ،ولم تخدعها وعود وتسويفات السلطة ،ولم تتحكم بها الأوهام ،ولم تتلاشَ شخصية الفرد ويُلغى ذكاؤه بل إن بين الشباب من أبهر الكبار بوعيه الثقافي ونضجه السياسي..ما يجعلنا نصحح،تنظير غوستاف لوبون بتنظير عراقي جديد نصوغه في الآتي:
(حين تستفرد السلطة بثروة الوطن وفرص العمل،وتستهين الحكومات بمطالبات الجماهير،فان الظلم والاستهانة يوحّدان المحرومين في انتفاضة جماهيرية يتصدرها شباب يواجه عنف السلطة بصمود فيلتف حوله الكبار ليضعوا السلطة أمام ثلاثة خيارات: إما الرضوخ لمطالب المنتفضين ،وأما الوصول الى حل توفيقي،وأما حرب كارثية تنتهي بانتصار إرادة الشعب).