TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الجيل الثالث

الجيل الثالث

نشر في: 11 نوفمبر, 2012: 08:00 م

كيف حدثت المعجزة البشرية التي أنتجت اللغة؟ وسواء أكانت ناتجة عن تطور في حجم وتركيبة المخ، أم نضوج في عملية الإدراك، أم مزيج بينهما، فقد أحدثت الانعطافة الأهم بمصير البشر. وهي انعطافة تختزن في داخلها رحلة طويلة ومعقدة من رحلات الابداع في تاريخ هذا الكائن الخطير. الموضوع لا يقتصر على خلق المفاهيم عبر تجريد صور المحسوسات، إذ يبدو على هذه العملية أنها موجودة لدى أغلب الحيوانات. لكن الإنسان تميَّز عن بقية الكائنات الحية عندما خلق اللغة، واستطاع بوساطتها أن يخلق معادلات لفظية لمفاهيمه المجردة، وهكذا فتح باب الثقافة على مصراعيه، وتحول إلى كائن ذي تاريخ معرفي تراكمي.
اللغة أداة اتصال مرنة بشكل فذ، ومن خلالها تمكن البشر الأوائل من نقل رسائل الاتصال لتبادل تجاربهم الحياتية، فأسسوا بذلك عملية التراكم المعرفي، وهكذا لم يعد من الضروري أن تبدأ الجماعات خبراتها من نقطة الصفر، بل من حيث انتهت الجماعات السابقة. ثم جاءت مرحلة الكتابة، وهذه نقلة لا تقل خطورة عن الأولى، فبعد أن كان الاتصال لا يحدث إلا بين فردين متقابلين أو بين فرد وجماعة متقابلين في أحسن الأحوال، تمكن هذا الكائن من خلال الكتابة من تخطي عائقي الزمان والمكان، فأي معجزة كان قد خلق؟! صار بإمكانه أن يُرسل رسائله الاتصالية عبر المسافات البعيدة، وعبر السنوات الطويلة، ومن هنا استطعنا أن نقرأ رسائل اتصالية كان قد ارسلها السومريون قبل آلاف السنين.
ما يهمني في هذا الموضوع هو تأثير الطفرات التي حققها هذا الكائن الساحر عليه هو، فبين البشر "المتكلمين" وبين من سبقهم من بني جنسهم حدثت طفرة ثقافية/ اجتماعية هائلة، وبين من كتبوا افكارهم وبين من لم يفعلوا أيضاً ثمة طفرة، وهكذا. لكن الساحر في طفرة اللغة، أنها أوقفت التطور أو النمو، البيولوجي، في المخ، وفتحت الباب أمام التطور الثقافي، وبعد أن تم ابتكار اللغة لم يعد هناك داع لأن يزداد حجم الدماغ ـ كما يؤكد علماء ـ. فهل كان التطور البيولوجي مرصوداً لغرض الوصول إلى حجم وشكل المخ "منتج اللغة"، أم أن اللغة قاطعت عملية نموا كانت لتكون مستمرة ودائمة، لولاها؟
بعبارة أخرى هل كان يمكن أن يستمر تطور المخ في حال لم نبتكر اللغة، فيطور قدرات أخرى؟ أم لا؟ كأن نلجأ إلى التخاطر، أو إلى صيغة أخرى للاتصال، أو أن نلجأ إلى عملية أخرى لا علاقة لها بموضوع الاتصال نهائياً، كما لو تنتقل المعرفة جسدياً عبر الجينات الوراثية، وبدل أن تحتفظ هذه الجينات بخريطة الصفات فقط، تحمل لنا بالإضافة لذلك خريطة المفاهيم والقوانين وبقية مفردات الثقافة. ثم ومن جهة أخرى إلى أي درجة ستؤثر الثورة التي احدثتها تكنولوجيا المعلومات، على الآليات التي نستخدمها في عمليات الوعي والإدراك؟ وهل نحن بصدد مقاطعة عملية نمو ثقافية، لنبدأ بأخرى مختلفة، خاصَّة ونحن نفكر عبر هذه التكنولوجيا ومن خلالها وداخل فضائها الافتراضي أغلب الأحيان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram