طالب عبد العزيز
ينصحني ابني بشراب (القرفة) الدار صيني، ويقول بأنه يجعل الدم قلوياً، وبما ينفع في مقاومة الكورونا، التي باتت الأقرب إلينا، بعد إصابة الكثير من الأهل والأصدقاء بها، فأستجيب له.
وفي خلوة صغيرة مع النفس، في لحظة استذكار سريعة جداً، وجدتني أسرح مع رائحة الشراب اللذيذ هذا الى أيام الطفولة ، الى مأتم بيت سيد فهد، والعلوية أم سيد جاسم، حيث تكون وشيجة العاشوراء مع شراب الدارصيني واحدة مما يقودني ويحلمني الى هناك، في سكة القصب والسعف الضيقة، أمام بائعات الباقلاء بالبطنج واللبلبي بالفلفل الحار والكماتيل بالسمسم والدبس .. هناك يبلغ الحسين عندي نقطته الأقرب في العين، وتصعد المعاني السامية للشهادة سلمها الخفي في الروح، دونما سوط من أحد، هناك، وسيكون للدمع معنى آخر ساعة تكون وحيداً، في مأتم لا يقدم أصحابه الدار صيني.
لا يروي ظمأناً فنجان واحد أبداً، ولماذا نكتفي بواحد؟ وإبريق الدارصيني أكبر مما نتخيله، فقد هالني حجم الابريق حقاً، كان أكبر من رأس أيٍّ منا، ياترى، ماذا لو اتفقنا، نحن مجموعة الصبية على اللحاق بالمرأة الى الموقد، هناك، بين الحطب والرماد والفناجين الكثيرة، وطلبنا منها المزيد من الفناجين، أو شاغلناها إن رفضت، وتركت الأبريق لنا بكامل مضمونه، ياه، أهناك شراب أجمل من هذا الأصفر ذي الخيط الحريف الحلو؟
منذ السنوات الغابرة تلك ارتبط شراب الدارصيني بالعاشوراء في ذاكرتي. وصرت أبحث عن مأتم قريب كلما قدّم أحدهم لي فنجاناً منه، حتى أنني في مستحم النسوة، بالبصرة القديمة، يوم اخذتني امي الى هناك، فوجئت بفنجان الدارصيني أمامها، لكنني، أحسست بشيء ما مفقود، هناك خلل في تأثيث المكان، إذ لم يكن مجلس النسوة حوالي صاحبة المستحم مجلساً للعزاء، كما كنت أراه في مأتم أم سيد جاسم، فعلام الدارصيني ؟ وكل النسوة اللواتي خرجن من الحجرات الصغيرة وغيمة البخار الى مجلسنا لم يكنَّ نادباتٍ باكياتِ، إنما جميلات، باسمات ببشرة وردية، فيهن من لم ترتدي ثيابها بعد، وغيرهن اشتملن بقليل منه. ولقطرات الماء التي تسقط من أجسادهن على الآجر رنة جرس كنسي. أقول: للجسد الانثوي هنا معنى مختلف تماماً، ومن حافظات الثياب تضوع روائح صابون الغار واللبان والعطر القادم من ليل الأسرة البعيد، كان المشهد باذخاً، لكنني، لم أجد في رائحة وطعم الدارصيني ما يذكرني بالمأتم، هناك خلل في تأثيث المكان، ومغالاة في وضع الصورة أعلى المستحم
لا اجدني بين زمنين تجاذبا الصور والروائح، أتامل فنجان الدارصيني الذي نصحني ابني به في اتقاء الكورونا، وفي ذاكرتي الفنجان الاول الذي تبعت خيطه الى الموقد، حيث الحطب والرماد والفناجين الكثيرة، هناك، حيث تجتمع نسوة القرية، يبحثن في قلبوب بعضهن عن حسين لم يقتل بعد، عن طفل جميل لم يرضيعنه، عن أخت شبيهة لهنَّ اسمها زينب لم يواسينها بما يجب... وبين هذه وتلك، يبقى معول الأيام عاجزاً عن قطع شجرة الطفولة، إذ، كل ذئاب الأرض لن تهزم ضحكة في مهد، ومن ليل الغربة والظلمات أكتفي بقميصي الأبيض هادياً الى البيت.