TOP

جريدة المدى > عام > الأسئلة الكبرى

الأسئلة الكبرى

نشر في: 12 يناير, 2021: 07:32 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

بول سي. دبليو. دافيز Paul C. W. Davies : عالم فيزياء بريطاني ذائع الشهرة ، وُلِد عام 1946 ،

وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1970 من كلية الجامعة University College في لندن ، وهو مؤلف ومقدّم برامج ، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND ( مركز المفاهيم الأساسية في العلم ) . تولى مناصب جامعية أخرى في جامعة كمبردج وجامعة لندن وجامعة نيوكاسل وجامعة أديلايد وجامعة ماكواري ، وتنصبّ مجالات اهتماماته البحثية في حقل الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي إلى جانب اهتمامه الشامل بتأريخ العلوم وفلسفتها .

القسم الرابع

نشر البروفسور ديفيز مايزيد على المائة ورقة بحثية في المجلات التخصصية في موضوعات الكوسمولوجيا والجاذبية ونظرية المجال الكمومي مع تأكيده الخاص على موضوعة الثقوب السوداء وأصل الكون . البروفسور ديفيز مولع كذلك بالبحث في الثقالة الكمومية ، وطبيعة الزمان ، وفيزياء جسيمات الطاقة العالية ، وأسس ميكانيك الكمّ ، وأصل الحياة ، وطبيعة الوعي .

أنتُخب البروفسور ديفيز زميلاً في الجمعية الملكية للأدب عام 1999 ، وقد حاز شهرة واسعة باعتباره كاتباً ومقدّم برامج علمية ومحاضراً لعامّة الناس .

أقدّمُ في هذا القسم – وأقسام تالية له – ترجمة لطائفة من الأسئلة الجوهرية التي تناولها البروفسور ديفيز بالمساءلة الدقيقة ، وتمثل هذه الأسئلة الفصل الأخير من كتابي المترجم ( الأسئلة الكبرى : الفيزياء الحديثة وأحجيات الكون والوجود البشري ) الذي ألّفه البروفسور ديفيز .

المترجمة 

 

المكانة الخاصة لقوانين الفيزياء

تحوز قوانين الفيزياء في يومنا هذا المركز الأساس في العلم ، وقد بات لها بالفعل مكانة مقدّسة إلى أبعد الحدود ، وفي الغالب يشارُ إليها على أنها أساس الحقيقة المادية . دعوني أقدم مثالاً حياً على هذا الأمر : لو ذهبتَ إلى مدينة ( بيزا ) في إيطاليا لأمكنك رؤية برجها المائل ذائع الشهرة ( الذي أعيد ترميمه من ناحية الهندسة الإنشائية ليكون بميلٍ آمن ) . تفيدنا الأخبار المتواترة أنّ غاليليو أسقط كراتٍ من أعلى قمة البرج ليوضّح كيفية سقوطها بتأثير الثقالة الأرضية ، وبصرف النظر عمّا إذا كانت هذه الأخبار صحيحة أم لا فقد نفّذ غاليليو بالفعل بعض التجارب الدقيقة لأجسام ساقطة ، الأمر الذي مكّنه من إكتشاف القانون التالي : لو أسقطتَ كرة من أعلى بناء مرتفع ثمّ قمتَ بقياس المسافة التي سقطت منها في ثانية ، ثمّ أعدتَ التجربة لثانيتين وثلاث ثوانٍ ،،،،، إلخ لوجدتَ أنّ المسافة التي قطعتها الكرة تزداد مع مربّع الزمن - أي بمعنى آخر : ستقطع الكرة بمدة ثانيتين مسافة تساوي 4 أمثال المسافة التي تقطعها الكرة في ثانية واحدة و9 أمثال تلك المسافة في 3 ثوانٍ و16 مثالاً تلك المسافة في 4 ثوانٍ وهكذا يمضي الأمر . يدرس أطفال المدارس اليوم هذا القانون باعتباره " حقيقة من حقائق الطبيعة " ، وفي العادة هم يأخذونه كما هو ثم يتجاوزونه من غير التفكّر فيه ملياً ؛ لكني أريد أن أتوقف عند هذا الأمر لأسأل السؤال الجوهري : لماذا ؟ لِمَ يوجد مثل هذا القانون الرياضياتي الذي يحكم حركة الأجسام الساقطة بصورة حرّة ؟ من أين جاء هذا القانون ؟ ولِم هذا القانون بالذات وليس قانوناً آخر سواه هو مايحكم حركة الأجسام الساقطة بصورة حرة في الفضاء ؟ 

دفعت الحقيقة التي تفيد بأنّ الكون المادي يتبع قوانين الرياضيات العالم غاليليو ليصرّح بعبارته الشهيرة " يمكن قراءة كتاب الطبيعة العظيم من قبل أولئك الذين يعرفون اللغة التي كُتِب بها فحسب ، وهذه اللغة هي الرياضيات " ، وصرّح الفيزيائي وعالم الفلك الإنكليزي جيمس جينز James Jeans عن الفكرة ذاتها بوضوح أعظم عندما كتب بعد عصر غاليليو بثلاثة قرون " يبدو العالم وكأنه مصمّمٌ من قبل عالِم متخصص في الرياضيات البحتة " . إنّ هذه الخصيصة الرياضياتية هي مايجعل من الممكن فهم مايعنيه الفيزيائيون من المفردة التي لطالما يُساءُ فهمها غالب الأحيان ، وأعني بها النظرية Theory . 

تقوم الفيزياء النظرية على كتابة معادلات رياضياتية تضع - أو تمثّل ، إذا شئنا إستخدام اللغة العلمية الدقيقة - العالم الواقعي المجرّب في إطار عالمٍ رياضياتي من الأعداد والعلاقات الرياضياتية ، ثمّ يمكن للمرء بواسطة التعامل مع هذه الرموز الرياضياتية أن يعرف ماالذي سيحدث في العالم الواقعي من غير أن يتكلّف عناء إجراء أية ملاحظة (أو تجربة ، المترجمة ) ؛ أي بكلمات أخرى : يمكن لعالم الفيزياء النظرية أن يتنبّأ بالجواب المطلوب بمحض تطبيقه العلاقات التي تعبّر عن القوانين ذات العلاقة بالمعضلة المطلوب دراستها . يمكن للمهندسين ، على سبيل المثال ، وباستخدام قوانين نيوتن في الحركة والثقالة أن يعرفوا متى سيصل قمر فضائي أطلقَ من الأرض إلى المريخ ، ويمكنهم أيضاً حسابُ كمية الوقود المطلوبة وأفضل مدار للقمر وعوامل عديدة مؤثرة قبل بدء الرحلة أصلاً ، وحساباتهم صحيحة وتعطي أجوبة دقيقة ومفيدة ! يصف النموذج (الموديل) الرياضياتي بدقّة مايحصل بالفعل في العالم الحقيقي ( وقد يتوجّب على المرء ، في واقع الحال بالطبع ، أن يبسّط النموذج ليوفّر زمن التحليل وكلفته ؛ الأمر الذي يجعل التنبؤ الرياضياتي جيداً إلى درجة معقولة من التقريب ، وليس هذا خطأ جوهرياً في القانون الفيزيائي بأي شكل من الأشكال) . 

عندما كنتُ في المدرسة تهتُ حباً بصبية صغيرة في صفّي تدعى ( لندسي) . لم أكن أراها كثيراً لأنها كانت تدرس الآداب بصورة رئيسة في الوقت الذي كنت أنا أدرس العلوم والرياضيات ؛ لكننا كنا نلتقي في مكتبة المدرسة من وقت لآخر ، وحصل في يومٍ ما أن كنتُ منشغلاً بإجراء بعض الحسابات التي لاأزال أذكرها حتى يومنا هذا : إذا رميتَ كرة في الهواء بسرعة وزاوية معيّنتين فستسمح لك قوانين نيوتن بحساب المسافة التي تقطعها قبل أن تسقط على الأرض ، وتخبرك المعادلات أيضاً بأنّ عليك أن تقذف الكرة بزاوية 45 درجة فوق خطّ الأفق حتى تحصل على أبعد مسافة ممكنة ، وإذا كانت الأرض التي تقف عليها مائلة نحو الأعلى فيجب أن تكون زاوية قذف الكرة أكبر لكي تحصل على أعظم مسافة ممكنة لأنّ قيمة تلك المسافة تعتمد على ميل الأرض . بينما كنتُ أنا من جانبي منشغلاً في حساب المسافة العظمى التي يمكن أن تقطعها كرة مقذوفة على سطحٍ مائل نظرت إليّ لندسي وسألتني عمّا أفعله ؛ فشرحتُ لها الأمر ، لكنها بدت متشككة ومندهشة ، وسألتني " كيف يمكنك أن تعرف ماستفعله كرة بمحض كتابة أشياء معينة على قطعة من الورق ؟ " . رأيتُ سؤالها آنذاك شيئاً منطوياً على السخف لأنني كنتُ أفعل بالضبط ماتمّ تعليمي وتدريبي لكي أفعله وحسب ؛ ولكن مع السنوات صرتُ أدركُ أن سؤال لندسي يحوي أحد أعمق أسرار العلم : لمَ تترافق الرياضيات مع الطبيعة ؟ ولمَ تنجح الفيزياء النظرية ؟

كم قانوناً يوجد ؟ 

مع بلوغ العلماء مجاهيل أعمق في بحث الطبيعة أكتُشِفت أنماط جديدة من القوانين لم يكن ممكناً بلوغها بمحض التفحص العادي لظواهر العالم ، مثل القوانين التي تحكم المكوّنات الداخلية للذرات ، أو بنية النجوم ،،، الخ ، ويثير تعدّد القوانين الفيزيائية سؤالاً مثيراً : كم هو طول القائمة الكاملة للقوانين ؟ هل تحتوي عشرة قوانين ؟ أم عشرين ؟ أم مئتين ؟ أم هل يمكن أن تكون القائمة لانهائية ؟ 

ليست كلّ القوانين مستقلة عن بعضها ؛ إذ لم يمضِ وقت طويل على غاليليو حتى بدأ نيوتن وبويل بإكتشاف قوانين فيزيائية وجد العلماء لاحقاً أنها مرتبطة ببعضها . على سبيل المثال : توضّح قوانين نيوتن في الثقالة والحركة قوانين كبلر الثلاثة في حركة الكواكب ، وبالتالي فهي - بمعنى من المعاني - أعمق منها وأكثر قوة . توضّح قوانين نيوتن أيضاً في الحركة قانون بويل في الغازات عندما تطبّق بصورة إحصائية على مجموعة كبيرة من الجزيئات التي تتحرك حركة عشوائية كاملة . 

تتالت القوانين الفيزيائية وتزايدت منذ القرون الأربعة التي شهدت إكتشاف القوانين الأولى في الفيزياء ، ثمّ ظهرت أيضاً علاقات اكثر فيما بين تلك القوانين ، وعلى سبيل المثال وجِد أن قوانين الكهربائية مرتبطة بقوانين المغناطيسية ، وبدورها وضّحت قوانين الكهرومغناطيسية القوانين التي تحكم سلوك الضوء . تسببت هذه العلاقات في شيوع قدر من الفوضى بشأن أي القوانين هي " أساسية " وأيها " مشتقة من الأخرى " ، وراح الفيزيائيون يتحدثون حول (القوانين الأساسية) و (القوانين المشتقة) - ذلك الحديث الذي يوحي بأنّ القوانين المشتقة وضِعت لأسباب براغماتية تسعى للحصول على المنفعة فحسب ، ويدعو الفيزيائيون القوانين المشتقة بأنها " قوانين فعّالة " تمييزاً لها عن القوانين الأساسية الحقيقية والتي تنشأ عنها - من حيث المبدأ في الأقلّ - القوانين الفعالة أو المشتقة . تتمايز القوانين الفيزيائية كثيراً ، ومن هذه الناحية بالتحديد ، عن منظومة القوانين المدنية والتي هي مجموعة غير مرتّبة من المدوّنات القانونية التي تظلّ تتوسّع لمديات لانهائية . يمكن في هذا الشأن إيراد مثال مبالغ فيه كثيراً يختصّ بقوانين الضرائب في بعض الدول - تلك القوانين التي تقع في ملايين الكلمات المكتوبة ، وبالمقارنة فإنّ الكتاب الأعظم لقواعد الطبيعة ( كما نفهمه في وقتنا الحاضر على أقلّ تقدير ) يمكن أن يشغل صفحة واحدة في أقصى التقديرات . إنّ إطلاق القوانين ( الفيزيائية ) ومن ثمّ إعادة ترتيبها واختزالها إلى قوانين رئيسية أمرٌ يمضي بسرعة ، ويدفع لغواية الإعتقاد بأن ثمة في نهاية المطاف بضعة قوانين أساسية حقيقية فحسب بل وربما قانون واحد علوي فائق يمكن أن تُشتقّ منه كل القوانين الأخرى . 

إذا ماكانت قوانين الفيزياء (الأساسية والمشتقة معاً ، المترجمة) هي الأساس للمشروع العلمي بأكمله فممّا يدعو للغرابة حقاً أن يكلّف قلة قليلة من العلماء فحسب أنفسهم مشقة السؤال عمّا تعنيه هذه القوانين . إذا تحدّثتَ مع الفيزيائيين بهذا الشأن سيقول معظمهم أنّ هذه القوانين هي كينونات حقيقية ؛ هي ليست أشياء مادية بالطبع بل محض علاقات تجريدية بين موجودات مادية ؛ لكنّ الأمر الجوهري هو أنّ تلك القوانين توجد حقاً في العالم وليست كينونات مثالية توجد في عقولنا فحسب . 

أراني كنتُ مهملاً بعض الشيء في توضيح لغتي الإصطلاحية ؛ لذا دعوني أوضّح الأمر بشكل أفضل : لو واجهتَ فيزيائياً وقلتَ له : " أرِني قوانين الفيزياء " فسيحيلك إلى مجموعة مختارة من كتب الفيزياء التي تتناول الميكانيك والثقالة والكهرومغناطيسية والفيزياء الذرية والنووية وميكانيك الكم ،،،، إلخ ؛ لكن السؤال الأكثر أهمية هو فيما لو كانت القوانين التي تجدها في أمثال تلك الكتب هي قوانين الفيزياء الحقيقية فعلاً أم محض أفضل محاولة قام بها شخص - أي فيزيائي - ما . قد تدّعي قلّة قليلة من الفيزيائيين أنّ قانوناً فيزيائياً موجوداً في كتاب فيزيائي منشور في وقتنا الحاضر هو آخر مايمكن قوله في هذا الشأن (أي القول الفصل ، المترجمة ) ، وربما كانت كل القوانين المذكورة في الكتب الفيزيائية نوعاً من التقريب للقوانين الحقيقية ؛ ولكن برغم ذلك فإنّ معظم الفيزيائيين يعتقدون أنّ تقدّم العلم كفيل بجعل القوانين المذكورة في الكتب الفيزيائية تقترب كثيراً من الأشياء الحقيقية ( أي من العالم الحقيقي ، المترجمة ) .

يتبع القسم الخامس

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

مشاركة 25 ألف مركبة خاصة و350 باصاً في نقل الزائرين

660 ألف طفل في قطاع غزة لا يزالون خارج المدارس

وزير الخارجية: القوات الأمريكية ستبقى في العراق بظل إدارة ترامب الجديدة

إيران: استقالة المسؤولين الإسرائيليين دليل على هزيمتهم

اسعار النفط العراقي تهوي لما دون 80 دولارا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram