د. نادية هناوي
من أجل أن تكون لبعض أبحاثنا ودراساتنا الأكاديمية( نوعية) فلا بد لها من مواكبة ما يستجد في مجالها عالمياً بعد أن تكون قد واكبت مستجداته عربياً؛
لكن كيف لباحثنا العربي أن يواكب المستجد وبغيته ليست تدعيم المعرفة واغناءها؛ بل كسب السبق وإظهار التميز على الآخرين؟ وهل يصح أن تتقزم النوعية عندنا في حدود سعي باحثنا العربي نحو تلبية الجوانب الكمية التي لا تتعدى في مجملها لجان الإشراف والمناقشة والنشر كي تقر له بالأولوية ولا تؤاخذه على أي مثلبة أو نقص.
إن ادراك أهمية المواكبة والتمتع بالنوعية هو ما يوصلنا إلى تطوير واقعنا الجامعي العربي بعيداً عن مظاهر الكم والعدد التي صارت تطغى على حساب النوعي العلمي الذي هو بالتأكيد منزّه في تحصيله عن التدليس والإغارة، متسائلين عن السبب أهو في تقديراتنا لتلك الأبحاث أم هو في الأبحاث نفسها؟ وما مدى دقة بعض الباحثين وهم يجعلون أبحاثهم وكتبهم ملأى بعبارات( دراستي الأسبق / موضوعي لم يُسبق / كتابي هو الأول..) التي تجعل المتن لامعاً يلصف بالنوعية بينما هذا اللمعان هو في الظاهر فقط وسرعان ما يخفت لتكون العتمة حالكة في العمق؟
بالطبع لا يتاح لنا أن نجيب عن هذين السؤالين ما لم نحدد الذي نرمي إليه من ناحية المجال المنتج والموضوع المنتوج والغاية الناتجة أو المتحصلة. فأما المجال فسيتحدد بالنقد الأدبي، وأما الموضوع فمقيد بالتداخل ما بعد الحداثي بين السرد والتاريخ والتاريخ والفكر، وأما الغاية فهي في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي سردياً.
والكتاب الذي نمثل به عينةً على ما تقدم هو (بنية العقل التاريخي العربي قراءة سيميائية في مدونة الطبري التاريخية) لسعيد عبد الهادي المرهج، والصادر عام 2015 الذي كان في الأصل رسالة جامعية.
وما دام الكتاب منتجا مستقلا وهو يحمل اسم مؤلف انجز العمل بمفرده وهو مسؤول عما أنتجه فيه؛ فإن رصدنا النقد نقدي للكتاب ـ بتفاصيله وجزئياته ومؤاخذاتنا على بعض مسائله ـ سيكون متاحاً ومبرراً. وسنوزع قراءاتنا النقد النقدية لهذا الكتاب بين محورين هما اللامواكبة واللانوعية، وكالاتي:
المحور الاول: اللامواكبة في المنتجة النظرية /
لا خلاف أن وجود أرضية نظرية عليها نشيد دراستنا أمر مهم بدونه تفتقر الدراسة إلى الرصانة وتصبح مهلهلة ومخلخلة حتى أن أدنى خطأ يمكن له أن يخرِّب كل ما تم تشييده بحثيا، نظرا لانتفاء وجود أساس من قاعدة مفاهيماتية.
وتتفاوت الأهمية البحثية في وجود القاعدة من موضوع الى آخر لكن جودة الموضوع وابتكاريته تجعله أكثر من غيره عناية بوضع قاعدة صلدة كي تكون النتائج منطقية ودقيقة وقد يبنى عليها مجدداً كثير من الموضوعات الأصيلة. وبهذا التجدّد في البناء تتحدّد أصالة الموضوع وجودته.
وموضوع مثل إعادة كتابة التاريخ الإسلامي أمر له أهمية لا بسبب جِدّة هذا الطرح مما وصفه مؤلف الكتاب بأنه( بكر لم يُسبق أن درس في ثقافتنا العربية) بل هو الاتساع النظري في تشكيل القاعدة التي عليها تبنى فكرة الاستعادة التاريخية عموماً والإسلامية تحديداً. فهل كان هذا الاتساع النظري مؤشراً عليه في تمهيد الكتاب بطريقة منطقية تختزل وتكثف من دون تشتت أو فوضوية؟ وهل أسس المؤلف تأسيساً نظرياً وهو يستعمل مفاهيم النص التاريخي وأدبية هذا النص وسرديته؟
تعد العنوانات بنوعيها الرئيس والجانبي مؤشراً مهماً من مؤشرات استيعاب الاتساع النظري إزاء موضوع بكر أو غير بكر كونها تحقق للكتاب وحدة عضوية وموضوعية متناً وهامشاً.
وإذا كان العنوان الرئيس يجمع العقل كـ( بنية ) بالتاريخ العربي الذي فيه الطبري( مدونة) وبالأداة القرائية التي هي( سيميائية) فإن المنتج المتحصل لدينا سيكون ثلاثة مدلولات لدال واحد بينما المفروض في أي عنوان أنه دال على مدلول واحد لا غير، يعطيه وضوحاً وقصدية.
ولنفصل القول في مدلولات هذا المنتج، فأما المدلول الأول فهو بنيوية العقل التي تعني أننا سنجد نهجاً نصياً ليست فيه أنساق ولا سياقات. وأما المدلول الثاني فهو الخصوصية التاريخية لهذا العقل. وأما المدلول الثالث فإنه يتنافى ويتضاد مع المدلولين السابقين: أولاً بالسيميائية التي بها ستُقرأ بنية هذا العقل التاريخي وثانياً بالشمولية التي فيها يُقرأ الطبري لا كمؤرخ لـ( تاريخ الأمم والملوك) بل ككاتب عام للتاريخ.
فما الضير مثلاً من أن يرافق اسم الطبري كتابه الذي طالما عُرف به في بنية العنوان الرئيس؛ إلا إذا كان في هذا الترافق تحرز يجلب الأنظار لأمر لم يرد المؤلف أن يجلبه إليه. ومعلوم أن تاريخ الطبري كان قد دُرس قبل أعوام من زمن إعداد الكتاب موضع الرصد كبحث قدمه بواز شوشان إلى جامعة هارفرد لنيل الدكتوراه وكان وقتها رئيساً لقسم التاريخ في الجامعة نفسها. وقد نشر بحثه ككتاب مستقل باللغة الانجليزية عام 2004 وحمل العنوان( poetics of Islamic historiography deconstructing Tabaris history ) ونقله المترجم حيدر الكعبي الى العربية في عام 2016 تحت عنوان (شعرية التأريخ الاسلامي تفكيك تاريخ الطبري) .
وقد قال شوشان مقدماً لعمله أعلاه:" إن دراستي لا تدعي الكمال لكنني مع ذلك آمل أن تفتح طرقاً جديدة لمعالجة تاريخ الطبري ولمعالجة التاريخ الإسلامي بصورة عامة فليكن عملي هذا دعوة الى قراءة أبعد".
وليس من السهل قبول العذر لسعيد المرهج في تجاهل كتاب شوشان أو بحثه إذ يبقى الافتراض العلمي قائماً وهو ضرورة أن يستقصي أي باحث جاد كل ما له صلة بموضوعه عربياً وعالمياً كي يكون واثقاً ومسؤولاً وهو يعلن أن كتابه( بنية العقل التاريخي) استكشف وخاض في حقل( بكر)
ويبدو أن استقصاءه لـ(الثقافة العربية) لم يسعفه في الوقوع على كتب فَتَحت الطريق لأول مرة لدراسة تداخل السرد بالتاريخ عربياً، ومما يمكن استحضاره هنا كتاب( الرواية وتأويل التاريخ) لفيصل دراج والصادر عن المركز الثقافي العربي عام 2004 وكتاب( قضايا الرواية العربية الجديدة) لسعيد يقطين والصادر عن دار رؤية بمصر عام 2010 فضلاً عن الدراسات التي تضمنتها ندوة (الرواية والتاريخ) ضمن مهرجان الدوحة الثقافي عام 2005 مع الإشارة إلى أن جانباً من تاريخ الطبري كان قد تناوله العلّامة جواد علي ببحثه القيم(موارد تاريخ الطبري) والمنشور في مجلة المجمع العلمي عام 1950كما درس الطيب الهبري تاريخ الطبري وتواريخ أخرى في شكل مقارنات في أطروحته(قتل الخليفة الامين وتحديات التمثيل في التاريخ الإسلامي القروسطي) .
وإذا انتقلنا في تتبعنا للمنتج العنواني ووقفنا عند التمهيد المعنون بـ( السرد السيري لحياة الطبري) أدركنا مدى تخلخل الارضية النظرية لا من ناحية الافتراق العنواني بين ما كُتب على الغلاف( مدونة الطبري) وما اهتم به التمهيد( ترجمة ياقوت الحموي) وإنما أيضا الافتراق بين فكرة تداخل التاريخ بالسرد أو السرد التاريخي وفكرة اثبات وجود منطق قدري في التاريخ الاسلامي وهو ما انتهى إليه المؤلف في تمهيده ليكون التخلخل النظري حاصلا في أمرين:
ـــ الأول غياب المرجعية التي هي في الأساس غربية لمنظرين من أمثال هايدن وايت وبول ريكور وغيرهما وكانت كتب بعضهم مترجمة وقت تأليف الكتاب موضع الرصد لاسيما كتاب ريكور( الحبكة والسرد التاريخي) بترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم 2006. وبسبب هذا الغياب تَخالف تأكيد المؤلف في المقدمة أن التاريخ لم يعد "فعلاً لغوياً غايته الرسالة في ذاتها انما فعل إخبار وأدبيته تكمن في هذا تحديداً" ص7 مع ما أكده تعامله مع التاريخ في التمهيد والفصل الأول وهو النظر الى التاريخ بوصفه فعلاً لغوياً يجتمع فيه العقل والنقل.
ويتضح هذا التخالف في تساؤل المؤلف: لماذا تاريخ الطبري؟ وأجاب: لأنه " سيبويه التاريخ أو شافعيه، وقد استطاع أن يمنح النص التاريخي بعداً أدبياً حين سوغ تداخل الفضاءين التاريخي بالأسطوري"ص7 وهذا الجواب يتعارض مع ما سيهتم به التمهيد وهو بيان أهمية ما في حياة الطبري من رؤى وأحلام من أجل فهم فكرة القدر ودور الرؤيا في توجيه العقل الإسلامي.
ـــ الثاني الالتباس المنهجي الذي فيه جمع المؤلف منهجيات تختلف في معطياتها وتتضاد في مبتغياتها ولا يمكن لأي كتاب مهما كان كبيراً أن يستوعبها كلها، أعني بنيوية بارت وجينيت وسميولوجية غريماس وهامون وفينومينولوجية ريكور حتى صار لكل فصل منهجه الخاص الذي يتناقض مع فكرة الكتاب المحورية وهي التعامل السردي مع النص التاريخي.