خالد خضير الصالحي
1
استعرت مرة رأياً لناقدة فرنسية معناه أن الشروح التي يسوقها الفنان لـ(توضيح) عمله الفني، تصيب ذاك العمل بالضرر؛
فيفقد غموضَه اللذيذ؛ ويرخّي مشداته الرابطة، لأن الاسراف في: الحديث عن ثيمات، وسرديات العمل الفني، وما يماثله من توضيح العلامات لتكون (مقروءة) ومشخصة من قبل المتلقي، لا يجب أن يكون على حساب تركز التلقي في شيئية العمل الفني، فنحن نعتقد أن الخلطة السرية للوحة لا يتبقى منها في النهاية إلا واقعة، مادية بالمعنى الواسع للمادة الذي ينطوي على عناصر: اللون، والمواد الملصقة، والتأثيرات التقنية التي تنتج الصورة البصرية، وأن تلك الطبيعة الشيئية تتكفل بالتعبير عن كل (الانفعالات)، وكل الدلالات التي (نبحث) عنها، أو التي (تتخلق) خلال مقاربتنا للعمل، فالفنان لا يجب أن يقع في مطب (توضيحين) هما: أولاً، أن لا يقدم تقارير مكتوبة عما أراد التعبير عنه، وثانياً، أن لا يقع في مطب تقديم مشخصات تتطابق مع أشكال الواقع، والتركيز على التعامل مع اللوحة باعتبارها واقعة ماديةً بصرية، وعليها أن تعبر بأقل قدر من السردية التي تنتمي إلى اللغة، فذلك من شأنه أن يصون العمل من الوقوع في ارتخاء (مشدات) العمل الفني، ويجعله فريسة لتخريب تناسق جسد التجربة، وهو ما حرص الرسام الدكتور كاظم نوير على تجنبه لأجل أن يبقي تجربته غضة طرية دونما ترهّل..
2
إن أعمال كاظم نوير هي بلا كينونة مسبقة، فلا اعتقد بوجود تخطيط مسبق، ولا مخططات قبلية للوحة تسبق وجودها، وتبشر بها، فكينونة اللوحة عنده تنخلق وهي تتقدم في أطوار استحالتها، إن ذلك نزوع وجودي عال، أن يتحقق وجود اللوحة قبل ماهيتها، وكما كتب (د. عاصم عبد الأمير) إن كاظم نوير «يقترح لعبة بصرية تقاد بسقف عالٍ من الارتجال الذي غالباً ما يثمر عن طمس لملامح التراكيب”.
3
لقد كررت سابقاً عبارة أثيرة في نفسي قلتها في كتابة سابقة لي عن الرسام العراقي اسماعيل خياط بـ(ان اعماله متشابهة بشكل مختلف، ومختلفة بشكل متشابه)، وهو ما أجده منطبقاً على تجربة الرسام كاظم نوير، فان أعماله يمكن أن تشكل لوحة واحدة تمتد الى ما لا نهاية كونها تتسم بأسلوبية واضحة، ولكننا من المستحيل أن نجد في الوقت ذاته لوحة تتماثل مع أخرى إلا بالصبغة الأسلوبية.
4
يقوم كاظم نوير بخلق أرضية من المتعرجات والمفروكات (frottage)، سواء قبل البدء بعملية الرسم أو من خلالها، وهي تقنية معروفة وظفها الرسام السوريالي (ماكس أرنست)، وذكرها ليوناردو دافينشي، وتتم عبر فرك أي مؤثر لوني، أو مادة ذات صبغة لونية، من أجل خلق سطح رثٍّ يمكن فيه اكتشاف أشكال خبيئة تماثل، بدرجة ما، أشكال الواقع ومشخصاته، وهو ما يفعله كاظم نوير من خلال معالجة السطح قبل البدء بعملية الرسم، أو أثناءها من خلال التلاعب بالفرشاة وإنتاج ترددات وضربات سريعة تخلق شيئاً فشيئاً حقل متعرجات يتم فيه اكتشاف الأشكال المختبئة في هذا الحقل المترامي من البقع والعلامات.
5
تحدثنا مرّات عن ما اسميناه (قانون) بيكاسو، وهو الـ(قانون) الذي يقول إن لا وجود لتجريد محض في الرسم، وإنه للوصول الى التجريد يجب البدء أولاً بمشخصات الواقع، ومن ثم الايغال في تجريدها، باتجاه طمس معالمها، ولكن حالما نصل الى مرحلة تنطمس فيها الملامح الأولى لذلك المشخص الذي ابتدأت به اللوحة، فإننا نكتشف أن روح ذلك المشخص مازالت كامنة في العمل الفني، وأن لا قوة تمتلك القدرة على محوها بعد أن خلفت روح المشخص كعلامة ثابتة داخل اللوحة، ولكنْ يبدو أن كاظم نوير ليس واثقاً تماماً من قدرة المتلقي على اكتشاف الشكل الخبيء الكامن خلف غلالات البقع اللونية والإشارية، أو الـ(بلّوْرة) الشكلية التي تتجمع عليها الأشكال الأخرى، فيحاول أن يلقي بمفتاح النجاة لذلك المتلقي لإرشاده الى تلك البلورة التي يؤسس العمل الفني، ويرتكز عليها، وغالباً ما تكون تلك العلامة طيراً يخترق فضاء اللوحة، أو علامة هندسية كتلك التي يضعها هاني مظهراً في أعماله، أو كتابةً، قد تكون مقروءة كعلامات محمد مهر الدين ولكن دون أمل بمعان لغوية كتلك التي كان يهدف إليها مهر الدين، أو قد لا تكون إلا محض (كلمات)، أو مجزوءاتها أحياناً، أو ربما تفاريقها الحروفية المبعثرة، او ارقاما لا دلالة محددة لها؛ فتشكل واحدة من هذه العناصر او اكثر، بلورة مركزية يعاد انبناء اللوحة عليها مجدداً؛ فتمنح اللوحة مركزية شكلية يعتبرها الرسام مهمة في لملمة شتات عناصر اللوحة والعودة ثانية الى الواقع عبر هذه البلورات التي تنبثق من فوضى الألوان والبقع والخطوط ومخلفات الأشكال.
6
إن إضافة البياض للوحة، في مراحل تالية، تخلق انقطاعاً في الاستمرارية المفترضة للخط المستقيم باعتباره أقصر المسافات بين نقطتين، وبذلك تخلق فراغاً يعطي عملية التلقي بعداً إنتاجياً يهدف الى تخليق الأشكال، ومن ثم تخليق الدلالات التأويلية، وعدم الاكتفاء بتلق سلبي للعمل الفني.