جمال العتّابي
صدر عن دار المدى مؤخراً كتاب ( التاريخ الثقافي للقباحة)، للمؤلفة غريتشن. إي. هندرسن، وهي باحثة أميركية تعمل في إحدى مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة،
ومثل هذا الكتاب يحتاج إلى من يناقش ماورد فيه من آراء، ولاسيما وأن المجال يتسع لمزيد من الإختبارات للأفكار التي تناولتها الكاتبة في دراسة وتتبع مفهوماً جديداً وقلقاً، ماتزال الدراسات والبحوث قاصرة في كشف أبعاده ودلالاته وآثاره على مستويات(سياسية، إجتماعية، إقتصادية، علمية وتربوية) .
في هذا التوجه ما يعطي المفهوم بعداً عميقاً، ويصير حاجة ترتبط بمدلولات محددة وصريحة، تلتقط بحساسية دقيقة الصور والاحداث تغوص عميقا في التاريخ ،في تعقب مفهوم (القباحة)، بوجهة نظر متجددة، وبشكل متماسك ومترابط، إنطلاقاً من أعياد الرومان، الى العصور الوسطى، وتبين لنا كيف طرحت القباحة تحدياً للذوق وللمعايير الجمالية.
إن عدداً من الدراسات إختارت لها منحى جديداً في الآونة الأخيرة، كانت على درجة من الأهمية، في إثارة فاعلية الجدل فينا، لم تكن الى وقت قريب، موضع اهتمام الباحثين، أذكر على سبيل المثال كتاب ( نظام التفاهة) للكاتب الكندي آلان دونو، وآخر(تاريخ الخوف) للكاتب فالح مهدي، العراقي المقيم في فرنسا، وقطعت هذه الدراسات شوطاً بعيداً في تحليل الظواهر السسيولوجية، والدينية، والنفسية، ومع تطور وتغير الأزمنة، إختلفت المتطلبات، وإستجدت أخرى، من هنا يجيء التاريخ الثقافي للقباحة، مكملاً لذاك الإتجاه، لينقلنا إلى جدل أعمق وأغنى وأدل بين ثنائية القبح والجمال عبر التاريخ.
وإذا كانت موضوعة الجمال نقيض القباحة، قد إستأثرت بإهتمام الفلاسفة منذ الإغريق وحتى يومنا هذا، فإن هذا يعني أن ماحملته المؤلفات والآراء والأفكار الخاصة بالجمال، ماتزال تحتل الصدارة في قائمة الإشتغال على هذا المفهوم.
في التاريخ الثقافي للقباحة، نكتشف ثراء المعرفة التي تختزنها هندرسن، وغنى تجاربها البحثية، وتقديم هذا التراكم البالغ في التفاصيل والشروح والتوضيحات، والصور، في تتبع تاريخي للبحث عن إجابة لسؤال محوري تطرحه الباحثة عن الثنائية المتضادة :ماالجميل؟ وما القبيح؟ وهل أن القباحة هي بالضرورة ضد الجمال،؟ على الرغم من ضعف الترجمة للنص،للأسف الشديد إذ يجد القارئ ارتباكاً واضحاً في صياغة العبارة، وخللاً في تسلسل وربط الأفكار بعضها للبعض.
تذهب هندرس في فصول الكتاب الثلاثة تتابع البحث عن الأفراد القبيحين، ثم الجماعات القبيحة، و تخصص الفصل الأخير بالحواس القبيحة، وفي إشارات قصيرة تصدرت الكتاب لأساتذة ومتخصصين، ما يؤكد حجم المغامرة المعرفية التي أقدمت عليها هندرسن، خارج السياقات، بإيجاز بالغ الدقة، وتتفق تلك الأراء على أن التاريخ الثقافي للقباحة كتاب مستفز، تجبرنا الكاتبة فيه على التمعن بأذواقنا ومخاوفنا وقناعاتنا الإجتماعية، أو مفهومنا اليومي للعدالة، ويصفه أحد الكتّاب انه كتاب ساحر، وآخر يتساءل عن الحقيقة، هل هي قبيحة دائماً، إذا كانت الإجابة نعم، فهندرسن أثبتت العكس.
إن قراءة هذا الكتاب تجعلنا نحاكم معاييرنا الشخصية حول الجمال المقبول، القباحة تتجاوز المسار الظاهري الذي غالباً ما يربطها بشكل حصري مع مظاهرها في الفن وفلسفة الجمال، وتدور في فلك العلاقات بين الناس والأشياء، والفضاءات والأجساد وأنماط الوجود، وكان لهندرسن القدرة في كشف تغير مفهوم القباحة، عوضاً عن حشر مضامين المفردة في تعريف وحيد فضفاض، إنها تنقل عن مترادفات(القبيح) عبر التاريخ، لإحياء وإغناء الجذور الابتمولوجية للكلمة.
تستعير الكاتبة توصيفاً لامبرتو ايكو للقباحة، فكتب: الجمال، هو على نحو ما، ممل، رغم أن مفهومه يتبدل عبر العصور، لكن على الشيء الجميل دائماً أن يتبع قواعد معينة، القباحة غير متوقعة، وتقدم مجالاً لانهائياً من الإحتمالات، الجمال محدود، أما القباحة فلا نهائية.
القباحة والجمال أشبه بمنظومة النجم التوأم، حيث ينضوي كل منهما ضمن حقل جاذببة الآخر، ويدور حوله، تقول هندرسن إن اهتمامها بالقباحة خلال قيامها بالبحث عن مفهوم التشوه، وتقاطع الدراسات في حقول تاريخ الفن والأدب حول الإعاقة الجسدية.
وتتعرض المجموعات القبيحة الى أساليب وممارسات لا إنسانية، بما في ذلك تحويلهم الي كبش فداء، أو لغرض ايروتيكي، أو إستعباد المجموعات وعسكرتهم، او اتخاذ اجراءات تطهيرية ضدهم. ومحاولات لسحق انسانيتهم.
مع تعدد الممارسات الثقافية، تبدلت معايير القباحة، وخضعت لتشريعات وقوانين مختلفة عبر التاريخ، أحد المؤلفين الموسيقيين كتب مقالاً عن معنى القباحة في الموسيقى، كذلك الجسد البشري كآلة يصدر أصواتاَ قبيحة(التجشؤ، المضغ، الصراخ، الشتائم) ، ولعبت العيون دوراً بارزاً في التاريخ الثقافي للقباحة، العديد من الثقافات تؤمن أن العين الشريرة الحاسدة الشيطانية، تؤذي من يراها، ويعرف الأعمى ما هو اكثر من مجرد حالة جسدية، إنه يحمل مضامين الجاهل، التنبل، عديم الاحساس، غير الواعي، غير المنضبط، العشوائي، المتسرع، المتعثر، ويقال :غضب أعمى، وإيمان أعمى.
وفي الأدب العربي تقليد يعكس المجاز من خلال مدح القباحة، والتهكم من الجمال، في نص يعود لبدايات القرن العاشر الميلادي، لكاتب مجهول، إن الشاعر الأفضل هو من يقبّح أجمل الأشياء، ويجمّل اقبحها، كما هو مدون في أحد أعمال الثعالبي(تحسين القبيح، وتقبيح الحسن) .
والى جانب هذه النماذج، هناك كتابة قبيحة، كما تشير هندرسن في خاتمة كتابها المثير، وهي تستحق اهتماماً أكبر، فالتاريخ الثقافي للقباحة، قد يهدف الى تفكيك شيء ما، أكثر فوضوية يمكن للقراء أن يلوثوا أيديهم فيه، كي ينقبوا عن مفاهيمهم الخاصة عن القباحة، ويكتشفوا على ماذا يحصلوا.
كتاب هندرسن مصدر إثارة للجدل والاهتمام، يعمد الى ماهو غامض بمستويات متعددة، منها الميتافيزيقي، الفلسفي، والموضوعي، والفنتازي، واللاشعوري، وعلى وفق ذلك أزاحت هندرسن الستار عن جمال زائف في المجتمعات، ووضعت أمام القارىء صورة معرفية بطبيعة الممارسات الإنسانية التي تقتل العواطف.