TOP

جريدة المدى > عام > الفلسفة: كيف تشكّل الأفكار الكبيرة حياتنا ؟

الفلسفة: كيف تشكّل الأفكار الكبيرة حياتنا ؟

نشر في: 9 مارس, 2021: 08:47 م

جوليان باغيني

ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

القسم الأول

جوليان باغيني Julian Baggini ( مولود عام 1968) :

فيلسوف وصحافي ومؤلف بريطاني ألّف ماينوف على العشرين كتاباً بشأن الفلسفة موجّهة للقارئ العام ، وهو أحد مؤسسي مجلة الفلاسفة Philosophes’ Magazine ذات الشهرة العالمية المرموقة . بالاضافة لمؤلفاته ومنشوراته البحثية العديدة في حقل الفلسفة فقد تناول باغيني أيضاً موضوعات متعددة مثل : العلمانية وطبيعة الهوية الوطنية .

وُلِد باغيني في مدينة فولكستون البريطانية لأب إيطالي مهاجر وأم انكليزية . حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 1996 من الكلية الجامعة في لندن عن أطروحته التي تناول فيها فلسفة الهوية الوطنية ، وهو يعمل حالياً ( 2020 ) باحثاً شرفياً في قسم الفلسفة بجامعة كنت .

يساهم باغيني على نحوٍ منتظم بكتابة مقالات وأعمدة صحفية في صحيفة الغارديان ، ومجلة Prospect ، وصحيفة الفايننشيال تايمز ، كما يساهم بمراجعات منتظمة للكتب في صحيفة وول ستريت ، ومجلة نيو ستيتسمان ، وصحيفة نيويورك تايمز ، والمراجعة الأدبية لنيويورك تايمز .

بالإضافة إلى كتاباته التي تناولت تأريخ الفلسفة والموضوعات الشائعة فيها يُعرَفُ عن باغيني اهتماماته الثقافية العامة ، مثل : فلسفة الطعام ، طبيعة النزعة الانكليزية . يُعرَفُ عن باغيني كذلك مناهضته لتعليم مبدأ الخلق Creationism في المدارس ، وكثيراً مادافع في المؤتمرات الفلسفية والعامة عن فضائل التعليم العلماني .

ألّف باغيني العديد من الكتب ، أذكر منها :

- كيف يفكّر العالم ؟ : تأريخ عالمي للفلسفة ، 2018

- موجز تأريخ الحقيقة ، 2017 - إستعادة الحرية : إمكانية الإرادة الحرّة ، 201- خدعة الأنا : ماالذي يعنيه أن تكون أنت ؟ 2011

- هل ينبغي أن تحكم على الكتاب من عنوانه ؟ 2009

- البطة التي فازت باليانصيب : و99 حجّة فاسدة أخرى، 2008

- عُدّة الأخلاقيات : الخلاصة الوافية للمفاهيم والمناهج الاخلاقياتية ، 2007

- عمّ يدورُ الأمر كله ؟ الفلسفة ومعنى الحياة ، 2004

- إضفاء معنى على الاشياء : الفلسفة الكامنة وراء العناوين الرئيسية ، 2002

- الفلسفة : موضوعات رئيسة ، 2002

- الفلسفة : نصوص رئيسة ، 2002

- عُدّة الفيلسوف : الخلاصة الوافية للمفاهيم والمناهج الفلسفية ، 2002

- المفكّرون العظام من الألف إلى الياء ، 2004

- ماالذي يفكّر فيه الفلاسفة ؟ 2003

- الفلسفة البريطانية الجديدة : الحوارات ، 2002

أقدّمُ في القسم التالي – وأقسام لاحقة – ترجمة لفصول منتخبة من كتاب باغيني المعنون ( الفلسفة : كلّ مايهمّنا عنها

Philosophy : All That Matters ) المنشور عام 2013 .

المترجمة

 

لماذا تهمّنا الفلسفة ؟

على الرغم من أنّ ازدراء الكائنات البشرية والتقليل من شأنها صار أمراً أقرب إلى الموضة الفكرية في بعض الأوساط فإنّ أغلبنا ( إذا شئنا نزاهة الاعتراف ) متفقون أنّ الإنسان العاقل Homo Sapiens هو نوعٌ بشري مذهل إلى حدود بعيدة ؛ لكن عندما يختصُّ الأمر بتوضيح ماالذي يجعلنا مختلفين عن ( إن لم نقل أفضل من ) الحيوانات الاخرى فإنّ الناس يُظهِرون اختلافات شديدة التطرف فيما بينهم . يشير الناس في العادة إلى قدرتنا المميزة في استخدام اللغة ، أو - ببساطة - قدرتنا على مقابلة الإبهام مع السبّابة ، وهي مقدرة تتيح للكائنات البشرية إمكانية متفردة للتعامل مع الموجودات المادية بطريقة معقّدة لاتستطيعها الحيوانات الاخرى ؛ لكن لايبدو أنّ أياً من هاتين الميزتين بإمكانها تسويغ فرادة النوع البشري . قد تفتقد الأنواع البيولوجية الأخرى إلى التعامل بلغة ثرية ومطواعة ؛ لكنها في نهاية المطاف تستطيع التواصل مع بعضها ، وقد نحوز مهارات أكبر من باقي الانواع في التعامل مع الاشياء ؛ لكن حتى حيوانات الشمبانزي تستطيع صنع بعضٍ من الأدوات الأساسية .

لذا دعوني أقدّم هذا الاقتراح هنا : واحدٌ من الاقتراحات التي توضّحُ لماذا نحن – النوع البشري – مختلفون ، ولماذا تتموضع الفلسفة في قلب ذلك الاختلاف ، ولماذا تعدُّ الفلسفة موضوعاً ذا أهمية في الحياة .

الفيلسوف الأوّل

دعونا نتفكّر في الكائنات البشرية الأولى : كانت تستطيع الكلام ، وقد صنعت ملابسها ، وشيّدت أكواخها ،،،، إلخ . إنّ هؤلاء الأفراد يبدون مختلفين للغاية عن الحيوانات الأخرى ؛ لكن ثمة خصيصة واحدة مميزة تتشابه فيها هذه الكائنات مع الحيوانات الأخرى : عندما يطير الطير جنوباً في الشتاء ، وعندما يبني القندس مخبأه أو عندما يصطاد الأسد فرائسه فإنّ كلاً من هذه الحيوانات يفعل هذا ببساطة لأنّ هذا هو مايفعله . لم يختلف إنساننا الاوّل عن هذه الحيوانات لأنه فعل بالضبط مافعله كلّ منها . ربما يكون من الأفضل قليلاً التفكير بشأن الوسائل التي أمكن للكائن البشري البدائي استخدامها في تحقيق غاياته النهائية ؛ لكنه يبقى في نهاية الامر مثل أية قطّة : هي تصطاد فريستها ، وتأكل ، وتتكاثر ، وتشيّدُ مأواها ، وتتفنّن في الملاعبة ثمّ ينتهي بها الأمر بالموت لأنّ هذا هو ماتفعله في الحياة .

ثمّ حصل يوماً ما أنّ تفكّر إنسان بشري بفكرة لم يتفكّر بمثلها - ربما - أي شيء في الكون من قبلُ : لماذا ينبغي أن أفعل ماأفعله ؟ بدلاً من قتل حيوان والاكتفاء بأكله فقد تفكّر هذا الكائن البشري في السؤال التالي : هل هذه هي الطريقة الوحيدة المتاحة للعيش ؟ يمكنك أن تتخيّل اليوم كم كان أمراً يسيراً أن يحصل غض الطرف عن هذا السؤال وأمثاله حتى بعد التفكّر فيه باستفاضة . لايزال كثرة من البشر حتى في ايامنا هذه يجاهدون لكشف النقاب عن الدافع الذي يجعلهم يفعلون مايفعلونه في حيواتهم . تأمّلْ مثلاً كيف أنّ كثيرين من البشر في الأجيال الأقدم من جيلنا الحالي جاهدوا لمعرفة السبب الذي جعلهم يتزوّجون وهم شبابٌ بعدُ ، ومن ثمّ قبولهم بالاجابة البسيطة التالية : « هذا هو مانفعله فحسب في أيامنا هذه « . قبل أن تحلّ لحظة التفكّر الفلسفي الأولى على نوعنا البشري كان كلّ شيء يفعله أفراد هذا النوع هو ، ببساطة ، ماكان يفعله هؤلاء الأفراد وحسب في تلك الأيام .

تساءل فيلسوفنا الأول في نوعنا البشري ، وبطريقة مؤثرة ، ذلك السؤال الذي صار واحداً من الأسئلة الجوهرية في الفلسفة : ماالغرض من هذا كله؟ ( What is the point of it all ? ؟ ) ، مامعنى الحياة ؟ كلّ الأسئلة الفلسفية الأخرى تتبعُ هذا السؤال الجوهري حتى لو كانت بعض الأسئلة تبدو غارقة في التجريد وبعيدة عن الاهتمامات البشرية اليومية .

لو سألتَ ، على سبيل المثال فحسب ، كيف ينبغي لك أن تعيش فستبدأ بطرح الأسئلة التي تختص بالأخلاقيات Ethics : ماالذي يتوجّبُ علينا أن نفعله وليس مانفعله حقاً فحسب ؟ ثمة شواهد متزايدة أنّ بعضاً من الحيوانات ، وبخاصة الحيوانات الرئيسة منها ( أي المتقدّمة في سلسلة التطوّر البيولوجي والأقرب الى النوع البشري ، المترجمة ) قادرة على إبداء مظاهر التعاطف ولها شكل ما من التعامل الرحيم والسلوك التفاعلي المتبادل ؛ لكن على الرغم من أنّ هذه الشواهد قد تشيرُ إلى بعض الإحساس الاخلاقياتي البدائي فليس ثمة حيوانٌ منها يبدو قادراً على التفكّر بشأن مايعنيه القول بأننا يجبُ أن نفعل شيئاً ما . أشّرت هذه الحقيقة الخطوة الرئيسة الثالثة في مسيرة التفكير ( البشري ) . أولاً ، تفاعلت العقول البدائية للنوع البشري مع العالم عبر الحواس المجرّدة ، وتمثّلت العالم كما هو . ثانياً ، نمذجت العقول الأكثر تطوّراً العالم ووظّفت الخيال لتمثيل العالم كما يمكن أن يكون . عندما انبثقت الأخلاقيات حلّ عصر جديد لأن الكائنات البشرية لم تكتفِ بالتفكير في العالم بطريقة وصفية فحسب بل بطريقة تنطوي على معيارية أخلاقياتية محكومة بأعراف محدّدة تجاه العالم كما ينبغي أن يكون .

إنها خطوة صغيرة فاصلة بين التفكير « كيف ينبغي لي أن أعيش ؟ « إلى التفكير « كيف ينبغي لنا أن نعيش معاً ؟ « – الأمر الذي يقودنا بطريقة مباشرة إلى الفلسفة السياسية . الحيوانات الأخرى لها سياسات تعايش خاصة بنوعها ( البيولوجي ) ؛ فهي تنظّمُ أنفسها في مجموعات اجتماعية ، ولها تراتبيات هيكلية وقادة ، وثمة بروتوكولات ( بل وحتى قواعد ضمنية ) تحكم سلوكها . إنّ مالاتفعله هذه المجموعات الحيوانية ( بالمقارنة مع المجموعات البشرية ) هو تغيير الممارسات على أساس التفكّر في الوسائل الافضل لتنظيم مجتمعاتها . إنّ هذه المقدرة البشرية هي - أؤكّدُ مرة أخرى - ميزة متفرّدة تخصّ النوع البشري ، وهي تنبثق من مقدرة أساسية لدى هذا النوع في التفكير فلسفياً بشأن الابعاد الخاصة بالنواظم المعيارية normative في الحياة .

متى ماوضعنا هذه النواظم المعيارية في حسباننا فلن يغيب طويلاً أنّ هذه الأبعاد المعيارية إنما تمتدّ أبعد من محض تلك الأسئلة الخاصة بكيفية العيش ، وأنّ هذه الابعاد المعيارية هي ذاتها التي تمنحنا القدرة على تقديم تقييمات بشأن موضوعات كثيرة في حياتنا مثل الفن والجمال الطبيعي والطعام والشراب . إنّ هذه الحقيقة هي التي قادت النوع البشري ( وإن كان الأمر لايخلو من عثرات شاقة ) نحو مجال آخر في الفلسفة – ذاك هو الجماليات Aesthetics .

( يتبع القسم الثاني )

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram