TOP

جريدة المدى > عام > سليمان العطار كتابٌ عظيم لم يُقرأ بعد

سليمان العطار كتابٌ عظيم لم يُقرأ بعد

نشر في: 12 مارس, 2021: 08:39 م

قحطان الفرج الله

«الغرب أحسن تجاوز عالم الوعظ بالعلم والمعرفة، وأحسن تجاوز عالم الغيب بعالم الشهادة، ومازال العرب خير سفراء للقرون الوسطى!!!»

د. سليمان العطار

مرّ عام على رحيل المفكر المصري سليمان العطار، ومازال السؤال يدور في أذهان الكثيرين من الذين جالسوه أو حضّروا دروسه، من هو العطار الذي أسر بحبّة الجميع وحزن لرحيله؟ من هو ذلك العبقري الذي آثر أن يكون بعيداً عن الأضواء والشهرة رغم ما يملك من عقلية علمية وإنسانية جبارة؟ قد يكون من طريف القول إن العطار هو من يجيب على ذلك، ففي حوار خاص أجراه الصحفي الصديق عبد الكريم الحجراوي، حين سأل الراحل، من الأكثر تأثيراً في حياة الدكتور سليمان العطار؟ أجابه: “عبد العزيز الأهواني رحمه الله، لأنه كان مبدعاً، فهو من أدخل الدراسات الأندلسية في مصر والعالم العربي، وإن كانت قد بدأت منذ القرن التاسع عشر لكن هو من طوّرها وأعطاها دفعة، وهو السبب في دراسة الأدب الشعبي مع الدكتور عبد الحميد يونس، فهو مثل أرسطو لم يؤلف كتباً كثيرة وكان يقول تلاميذي هم كتبي».

باختصار سليمان العطار كتاب عظيم يصلح للقراءة مرّات ومرّات فقد جسّد بحق سلوك المثقف العضوي الذي يمارس الثقافة كسلوك يومي ولا يرفع شعاراً دون حراك. فهو يؤمن أن الوعي منطقة شعور لا منطقة عقل فقط ، ووظيفة المثقف فيه إشاعة مفاهيم الثقافة، وفي طليعتها الحفاظ على قيم الإنسانية المطلقة، ولابد له من أن يمتلك رؤية للعالم والكون، وأن يساهم في بناء المشاريع الحضارية الكبرى، وعليه التصدي لتيارات العنف، واستبدال ذلك بالحوار وقبول المختلف، ونبذ التخلّف والجهل والرأي الواحد، ويشجع روح الإبداع والابتكار، يتمرد على روح التنميط الثقافي والجمود والتحجر أمام النصوص وتقديسها كأفكار لا تقبل النقاش، ويعمل على تشغيل آلة الزمن ليسافر نحو المستقبل، لا ليعود إلى الماضي لاعنــاً الحاضر دون المساهمة في تغييره أو السعي إلى ذلك من خلال البدء بالنفس.

جسّد المفكر سليمان العطار ذلك من خلال كتاباته وترجماته، وسلوكه بشكل دقيق جداً، ففي كتابه الذي توقع هو شخصيــاً أن يثير جدلاً في الأوساط الأكاديمية والثقافية (مقدمة في تاريخ الأدب العربي دراسة في بنية العقل العربي) غاص العطار نحو الجذور التي حوّلت (تاريخ دين) إلى بديل غير منصف لتاريخ شعوب عربية بأكملها مما تحمله من تنوع ثقافي واجتماعي، أثر ذلك بشكل كبير في قضية التشرذم والتشتت العربي المأساوي، فأصبح العرب بعد ذلك يبحثون عن وشم لتاريخهم المفقود في خضم النهضة الكبيرة التي اجتاحت العالم الغربي وصُدم العرب إزاءها عندما قرر محمد علي باشا إرسال بعثات إلى ذلك العالم المجهول.

إن ذلك التاريخ الذي شُطب من الذاكرة بفعل فاعل ووصم بالجهالة؟! حاول محمد علي باشا بث الروح فيه من مرة أخرى سعيـاً نحو عالم جديد وافق مغاير لتحويل مصر إلى امبراطورية حديثة، ولكنه وقع هو ورجاله أمام مشاكل عويصة اسمها (التراث)، فكان أمام خيارين لا ثالث لهما الأول: أن يسلم بمنطق التحديث الغربي دون قيد أو شرط وهذا ما لم يحصل، والثاني: العودة إلى التراث بما يمثل من ماضوية وبذلك ينقاد لسلفية العقل التراثي الذي أنتج كل شيء حتى قيام الساعة! بعملية إيقاف لمنظمة العقل بشكل مخيف.

حول هذا النمط من التفكير العقل العربي الموسوم بالصحراوية إلى عقل تابع أو بحسب العطار، إلى عقل (الرجال الأطفال) الذين يستهلكون منتوجات الآخر- الفكرية والمادية- دون وعي بالكيفية التي انتجت فيها والظروف الثقافية والاجتماعية التي رافقتها.

طرح العطار فكرة الرؤية الشمولية للتراث ونبذ التجزئة، واستلهام ما في التراث من طروحات بهدف تحديث الحاضر، وفقاً لمتطلبات الحاضر نفسه لا ظروف الماضي الذي أنتجته، نظر إلى محاولات الشيخ محمد عبدة وجمال الدين الأفغاني بنها محولات رغم أهميتها البالغة لا تتعدى ردة الفعل على حركات محمد علي باشا والغزو الفرنسي، تنبه لمدرسة الشيخ أمين الخولي، والصدمة الهائلة التي صنعها الدكتور طه حسين وعدها من أولى المحولات الجادة في رمي حجر لتحريك المياه الراكدة.

يرى العطار أن التراث يُشكل أهم عناصر الهوية، ولكن هذه الهوية أصيبت بالتكلس والجمود وتوقف الزمن في منظومتها الحركية، فهذه الهوية “تتآكل ويعظم هذا التآكل بتقديس التراث دون الإضافة إليه والتعمق في معرفته ودراسته وحسن توظيفه للانطلاق به نحو مستقبل يعتز بماضيه الذي يعطيه طاقة تجاوزه”

سلط الضوء على موضوع غاية في الخطورة والأهمية، ذلك الصراع الذي برز من خلال ازدواج المفاهيم دون توافقها، فهنالك صرع بين عقلين وثقافتين، فثقافة أحدها شرقي قدّس التراث وتوقف عنده وأصبح كلّ ما قد يأتيه منه لا يقبل الشك والنقاش فهو مسلم به، وثقافة غربية أخرى احسنت تجاوز ماضيها من خلال مخاضات وحروب صعبة ، آمنت بأن الحياة تراكم مستمر تخضع لقانون الحاضر والمستقبل فأبدعت وابتكرت وتطورت وسيطرت، فطرح السؤال المحوري سؤال العقل: الذي يحاول التماهي مع المستقبل، والآخر (العقل التراثي) الذي لا يريد أن يغادر القرون الوسطى، وبذلك وقع جمهور من المثقفين في باب التلفيق والخلط بين ثقافتين تكاد تكون إحدهما عكس الأخرى في منظوماتها الحركية، لعل هذا السؤال يحيلني إلى بداية هذه السطور فالأهواني الذي صنع من تلامذته كتبــاً بهذه العظمة طرح في أحد أهم كتبه عنوانــاً طريفــاً وخطيراً وغاية في الدقة والموضوعية، عندما أراد دراسة شعر ابن سناء الملك وهو شاعر من العصر الأيوبي، اسماه (ابن سناء الملك ومشكلة: العقم والابتكار في الشعر) وظّف مصطلح العقم: وهو مصلح ينتمي إلى علم الفسيولوجيا علم وظائف الجسم، فهناك زواج بين (ذكر وأنثى) وعملية تلقيح، ولكن لا توجد عملية (إنجاب) كمعادل موضوعي (للعقم) وبذلك سلّط الضوء على جانب مهم ودافع خطير في هذا العقم الابتكاري الشنيع وهو عقدة الأصول الثقافية (المانعة) التي هيمنت على الشاعر ابن سناء الملك ولعله أول من تنبه إلى موضوع الأنساق المُضمرة حيث يقول الأهواني إن الأهم هو البحث في “ الأصول الثقافية التي استخرج منها ابن سناء الملك مادته، والمناهل التي استقى منه اختراعه وابتكاره – المزعوم- ونحن واجدون ذلك في التراث الشعري والعربي الذي عكف ابن سناء الملك على مطالعته وحفظه عكوفــاً طويلاً جعله لا يفارق خياله وهو ينظم، فقد كان يقتبس من ذلك التراث فيسطو عليه ثم يتحداه في الوقت نفسه وينافس أصحابه”!

هكذا يفكر الأهواني وكهذا صنع من عقول تلاميذه، وأنا أفتش عن الأصول الثقافية التي دفعت أستاذي الدكتور سليمان العطار لدراسة ابن عربي ونظرية الخيال عنده تحديدًا لاحظت إن همه كان في تحريك منظمة الابتكار، فالعطار يرى إن الخيال أداة خلق معرفية، وهذه نظرة جديدة للخلق الفني والإبداعي، حتى وصف الراحل نصر حامد أبو زيد هذه الرؤية بأنها “قراءة خاصة جداً»، أما اختيارات العطار المترجمة فكانت تستهدف الإنجاب والابتكار أيضاً، وصورة الإبداع كيف تكون ، فاختار ببراعة ترجمته لمائة عام من العزلة قبل حصول ماركيز على جائزة نوبل وكان يقول عن ترجمتها: “ بدأت أتحمس،

من يطلع على الرواية بقراءة متعمقة قليلاً يلحظ حضور عدة موتيفات بشكل لافت تتشكل من ثنائيات متصلة (السلام، الحرب) (الحبّ، الكره) (الولادة، الموت) (الحضور، الغياب) وكذلك ظهور ثيمات عدة من أهمها حرفة هذه العائلة التي تظهر وتختفي بين جيل وجيل من تلك الأجيال السبع وهي (صناعة الأسماك اليدوية) الحرفة التي امتهنتها العائلة منذ أول ظهورها، فالسمكة متحجرة لأنها مصنوعة من المعدن كأنها تشير إلى معادل موضوعي للتراث، وهي بطبيعة الحل(سمكة) ، إذا خرجت من الماء ماتت، فنحن لا نستطيع مغادرة بحر التراث إلى عوالم أخرى ربما هكذا كان يشعر العطار وهو يسقط قراءته الشمولية على هذه الرواية الفريدة.

أما بخصوص ترجمته لرائعة ثربانتس (الشريف العبقري دون كيخوتي دي لامانشا) فهي تصل الجذور التي تحدثنا عنها من فكرة الرواية وبطلها النبيل الذي يريد محاربة الشر منطلقاً من أكوام الكتب التي كان يقرأها مبتدئاً هو وخادمه (سانشو) في نكته كبيرة بمحاربتهم طواحين الهواء... قد لا يتسع المجال لقراءة صفحات من كتاب عظيم اسم سليمان العطار للمؤلف عبقري اسمه عبد العزيز الأهواني في هذه العجالة ولكني سأكرس الكثير من الجهد والوقت لقراءة هذا الكتاب الفذ الذي وصف نفسه ومؤلفه: الأهواني كان دون كيشوتياً «وأنا دون كيشوت

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram