د. سعد عزيز عبد الصاحب
تختلف تجربة المخرج المؤلف في المسرح العراقي ما بعد التغيير السياسي عما قبلها ، اذ اتخذت صياغاته الفكرية والفنية إطاراً جمالياً جديداً تغذى على أسلوب مسرح (الواقعة) theatre of fact
وهو أسلوب درامي مسرحي حديث اشتغل عليه المسرح الألماني في ستينيات القرن المنصرم يقوم على تقديم حدث سياسي أو اجتماعي أو واقعة ما في إطار درامي ولذلك يطلق عليه تسمية مسرح الوقائع أو الواقعة ويستند هذا الشكل المسرحي على الوثيقة الحقيقية والبيانات كمادة أولية ويكون العرض في هذه الحالة إعادة تمثيل لمراحل الحدث ، تفاعل هذا النوع المسرحي مع أسلوب إخراجي آخر (الواقعية الخيالية) أو الفنتازية وهو المسار الفني الذاتي الذي اشتغل عليه المخرج المؤلف ،
إذ بعد أن اصطخب الشارع العراقي بعدد كثير من الحكايات الوقائعية التراجيدية الدامية وغرائبيتها والتي هي ليست من نسج خيال كاتب أو مخرج بعينه إنما هي حوادث حقيقية فيها من المدهش والعجائبي ما يمكن أن يوظف للدراما فخلق النص الجديد من هذه الوقائع واليوميات التي كانت بحق أكبر من الدراما نفسها ، فتغيرعمل المخرج المؤلف الجديد عن سابقه الذي كان يتعالق مع التراث أو الأسطورة أو النصوص الأجنبية في بناء نصه الدرامي ، وتمكن المخرج المؤلف من استثمار لحظة الحرية النسبية التي انبثقت بعد عام 2003 ليقول ما لم يستطع قوله في السابق ، ولتؤطر هذه الحكايات الحقيقية بفواعل مسرحية تنتمي للخشبة وفنونها أسهمت في الانفتاح على المجتمع ومشاكله وعلّله العضوية وفضحه بكثير من القسوة والرفض والاحتجاج أدى ذلك الى تأسيس المخرج المؤلف لبنية نصية متوافقة مع الرؤية الإخراجية تدفع بالنص المسرحي بأتجاه التخلص من اللغة السردية التي باتت تحكم قبضتها على النصوص المسرحية وانفتحت الأساليب الإخراجية للمخرج المؤلف على مفهوم ما بعد الحداثة الذي يعتمد آليات مغايرة في أسلوب كتابة النص المسرحي والإخراج ، إذ تتحول اللغة النصّية الى صور متناثرة في فضاء العرض يتم من خلالها توليد دلالي مغاير لذلك الذي توافر في النص الأولي ، ومن النماذج الفنية المؤثرة التي جسدت مفهوم المخرج المؤلف وشواغله بعد عام 2003 المخرجون المؤلفون (مهند هادي )و(ماجد درندش)و(سعد هدابي)و(أنس عبد الصمد) وغيرهم استطاعوا أن يشكلوا علامة مائزة في إنتاج المخرج المؤلف وأساليبه الفنية المبتكرة المتعالقة مع حوادث ووقائع بلاده بحس وطني مسؤول وأخلاقي عال ، ففي مسرحيات (حظر تجوال ) و(في قلب الحدث)و(كامب) استطاع المخرج المؤلف (مهند هادي) من توظيف وقائع حظر التجوال الليلي والسيارة المفخخة وموضوعات الهجرة في (نصوص عروض) انشأت فضاءً سينوغرافياً مهيمناً متعالقاً ومندغماً مع الرؤية الإخراجية والأداء التمثيلي بتشكيلات بصرية اعتمدت الكادراج السينمائي والوحدات المشهدية المستقلة وشخوص من القاع الاجتماعي (صباغ أحذية)(غاسل سيارات)(بائع جرائد)(مدمن)(أرملة) لذا تهدمت الشخصية المحورية الرئيسة وظهرت شخصيات من الهوامش القصية لتنازعها البطولة بلغة حوار ساخرة (باروديا) parodia تصل في تداولها المسرحي للغة الشارع في استعمالها للألفاظ البذيئة والفضة في بعض الأحيان ، يتكِئ (هادي) على إنشاء فضاء جمالي بصري غير منعتق عن أفعال الشخصيات على الخشبة وإنشاء مفردة سينوغرافية تهيمن على التلقي بتوليدها الدلالي المستمر من قبل الممثلين تنفتح بدورها على أداء غروتسكي غير واقعي في الإداء التمثيلي أما الزمن لديه فهو زمن الحادثة اليومية وما بعدها أي الزمن الفنتازي حيث الشخصيات تعيش في زمن ما بعد الموت ما بعد انفجار السيارة المفخخة أو في زمن الحلم اليوتوبي المخدر بفعل المسكر في حظر التجوال أو زمن استعادي ناستولوجي (فلاش باك) في مسرحية (كامب) إن ما يحسب ل(هادي) اشتغاله في منطقة مسرحية جديدة وبكر ، إذ لم يهمش الخطاب الجمالي والبصري على حساب السياسي ولا العكس أيضاً ولم تذهب عروضه الى مباشرة وعظيّة ساذجة بل كان عميقاً ومحترفاً في تقديم الوجع العراقي بضحك كالبكاء .
أما المخرج المؤلف (ماجد درندش) فهو ينطلق من الشخصية الدرامية وموقفها البطولي (الوثيقة) بوصفها مركزاً مهيمناً وشاهداً على الحدث الواقعي في بناء نص العرض لديه الذي لا يكتمل ضمن صيغة نهائية أبداً حتى ليلة العرض فهو في مسرحيات (ثمانية شهود من بلادي) و(أساطير من بلادي) يدوّن خطاطات متغيرة دائماً لما يستجد من متغيرات فهو يكتب على نسخة نص (أساطير من بلادي) النسخة السادسة ، معتمداً على التمرين المسرحي ، إذ لم يكن عبداً للوثيقة ومقولاتها إنما هو يضيف ويحذف بشكل مستمر بفضاء أدائي ارتجالي يستحيل على التدوين ، هنا تكمن إضافة درندش وبراعته بتصوره أن لاشيء مكتمل وكل المرويات التي سمعها عن الشخصيات البطولية تلك هي غير نهائية أو حاسمة لذا هو يعطي نصه وممثله فضاءً غير محدود من الحرية انعكست هذه الحرية على فضاءات عروضه المسرحية وأمكنتها غير القارة أو الثابتة فعروضه تصلح للعلبة الإيطالية والفضاءات المفتوحة والمغلقة وذلك لأن عروضه ليست للنخبة ، إنما للجماهير بمختلف طبقاتها وتوجهاتها ، أما حركة الزمن في عروضه فهي قادمة من عملية استحضار الأرواح وبآلية أشبه بفعل السحر الأسود فاستدعاء الشهداء (مصطفى العذاري) و(علي النداوي) و(سميرمراد)و(ماجد عبد السلام) وغيرهم يتم من خلال مأزق تمر به إحدى الشخصيات فتستحضر الشهداء في عملية تدوير لفعل البطولة لتمثل الشخصيات أفعالها البطولية ومشاهد استشهادها بفعل التغذية الراجعة بتكرار المشهد الواقعي بشكل جمالي مسرحي اخر ، وكذلك عندما تهرب الفتاة الايزيدية من قبضة الدواعش مشوهة وجهها كي لا يدنسها حفنة الارهابيين وتجد نفسها قرب قوات الحشد الشعبي والجيش العراقي لتستحضر البطولات مرة أخرى في الحفاظ على هذا المكون العزيز من مكونات شعبنا ، أما طبيعة اللغة في نصوص ماجد درندش فتعتمد اللغتين الفصحى والدارجة ويُبدع في كليهما بألفاظ رمزية واستعارية (حسجة)أقرب الى الشعر تساعد الممثلين كثيراً في إيقاعها ونبضها الغنائي وسهولة معانيها ، نستنتج مما سبق أن الهيمنة السابقة لخطاب المخرج المؤلف قد تم تفتيتها بأتجاه العمل الطاقمي والارتجال الجماعي وأصبح لدينا نص عرض جديد تداولي (شعبي) قريب من المتلقي ووجدانه ومتمثل لحاجات المجتمع والثقافة .