لطفية الدليمي
لم يُعرَفْ عني من قبلُ تناولي لموضوعات ذات طبيعة تخصُّ الشعر أو الشعراء. ليس هذا بالأمر الغريب ؛
فأنا أنتمي لمدرسة ترى أنّ العقل الشعري يتمايز نوعياً عن العقل غير الشعري (أو بتوصيف آخر، التحليلي) الذي ينضوي تحت لوائه العقل الفلسفي والروائي والعلمي؛ لكن ثمة إستثناءان بين الشعراء مثّلا ميداناً لقراءات معمّقة لي ، وهذان هما وليم بليك William Blake و تي. إس. إليوت T. S. Eliot. قصتي مع وليم بليك قصة طويلة تحتاجُ معالجة خاصة ؛ أما إليوت فسأتناوله باختصار في المادة التالية ، ودافعي في هذا هو صدورُ ترجمة جديدة عن ( دار المدى ) من عمله الأشهر ( الأرض اليباب The Waste Land ) للشاعر العراقي فاضل السلطاني .
لابأس هنا من الإشارة إلى أنّ مايجمع بليك بإليوت هو رؤيتهما الميتافيزيقية لأهمية الشعر وكونه ينطوي على ثيمة خلاصية للإنسان ؛ لن يحجب عنّا هذا الأمر حقيقة أنّ الجرعة الميتافيزيقية ( التي توصفُ بالصوفية في تراثنا المشرقي ) واضحةٌ بمقادير أعظم في أعمال بليك ؛ في حين أنّ إليوت ترسّم خطى نوعٍ من الإيمان الديني التقليدي المرتكز على تقاليد كاثوليكية راسخة .
أسبابٌ عديدة دعتني للإهتمام بِـإليوت وأرضه اليباب :
أولاً : يشيرُ النقّاد الأدبيون ودارسو الحركات الأدبية إلى الأرض اليباب باعتبارها أحد المعالم المميزة لبدايات الحداثة الأدبية إلى جانب معالم أخرى ، منها : لوحة « آنسات أفينيون « لبيكاسو ، رواية « يوليسيس « لجيمس جويس ، وروايات فيرجينا وولف وغيرترود شتاين . من الطبيعي أن تكون معالمُ الحداثة الأولى موضوعاً أثيراً لدى كلّ مهتمً بمتابعة بواكير الحداثة على كل الأصعدة المعرفية سواءٌ كان في حقل الرواية والأدب أم سواهما .
ثانياً : لطالما تعامل كبارُ النقّاد الكلاسيكيين مع إليوت باعتباره أحد القلّة النخبوية من الشعراء الذين يصحُّ وصفهم بأنهم شعراء حقيقيون . يمكنُ في هذا الجانب الإشارة إلى مثالين من هؤلاء النقّاد : إف . آر. ليفز F. R. Leavis الذي إعتبر إليوت واحداً من الثلاثة الكبار في الشعر الانغلوسكسوني ( الآخران هما جيرارد مانلي هوبكنز ، و وليم بتلر ييتس ) ، والمثال الثاني هو فرانك كيرمود Frank Kermode . إنّ من يقرأ كتاب ليفز المسمّى إتجاهات الشعر الأنكليزي المعاصر ( الذي ترجمه الدكتور عبد الستار جواد أواخر سبعينيات القرن الماضي ) سيعرفُ السطوة الكبرى ( المشبعة بصبغة لاهوتية ) التي خلعها ليفز على شعر إليوت .
ثالثاً : شيوعُ ترجمات الأرض اليباب إلى العربية أكثر من سائر الأعمال الأدبية الشعرية وغير الشعرية ؛ فالمعروف أنّ ترجماتٍ ستّاً نُشِرت لها ( أنجزها كلّ من لويس عوض ، وأدونيس ويوسف الخال ، وعبد الواحد لؤلؤة ، وماهر شفيق فريد ، ويوسف اليوسف ، وتوفيق صايغ ) على مدى زمني يمتدُّ لعقود عديدة ، وهذه إشارة دليلية على حيوية العمل وملامسته للمستجدّات الفكرية وقدرته على تحفيز قراءات مختلفة برؤى مختلفة .
رابعاً : أعادت ( الأرض اليباب ) ترسيم وظيفة الشعر : ثمة قناعة سائدة مفادها أنّ الخيال إنما هو خصيصة مرتبطة بالعقلية الأدبية ( والشعرية منها على وجه التحديد ) ، وتنطوي هذه القناعة على أكذوبة جرت مجرى الأمثولات الراسخة التي لم تخضع ( مثل قناعات راسخة كثيرة سواها ) لمراجعة تمحيصية دقيقة بشأن ماالمقصود بمفردة (الخيال) من الوجهة الإجرائية ؟ ويمضي الأمر ليبلغ مستويات غير مسبوقة من السوء من خلال ربط الفكر التحليلي بالعقلية المفتقرة إلى الخيال ، وتلك مغالطة فلسفية شائهة . ليس من نسقٍ فكري بشري في أيّ ميدان كان لم يبدأ بالخيال كنقطة شروع ، وثمة الكثير من المصنّفات التي تحكي بتفاصيل مدهشة عن هذه الجزئية . جاءت ( الأرض اليباب ) – التي غالباً ماوصِفت بأنها « موسيقى أفكار « – لتعيد تشكيل الخارطة الفكرية للشعر عبر توظيفها للتناصات Intertexuality التراثية والإلماعات Allusion ؛ فأنت لاتستطيع مع الشعر الإليوتي القراءة المسترخية ؛ بل لابدّ من عمل وجهد متوازيين مع القراءة . قد تقرأ سطراً من الأرض اليباب وترى نفسك في حاجة لمراجعة مقطع من ( الغصن الذهبي The Golden Bough ) لجيمس فريزر على سبيل المثال ، وهذا هو ماحبّبني في شعر إليوت .
* * *
كانت قراءتي الأولى للارض اليباب في كتاب فرانك كيرمود المعنون ( الأرض اليباب وقصائد أخرى The Waste Land And Other Poems ) ، وللمرء أن حجم التعليقات والتعقيبات والإشارات المرجعية التي تتجاوزُ بعدّة أضعاف حجم العمل الأصلي الذي لايتجاوزُ 433 ( يرى البعض أنها 434 ( سطراً ؛ أما النسخة العربية الوحيدة التي قرأتها فكانت ترجمة الدكتور عبد الوحد لؤلؤة التي جاءت في كتاب ورقي صغير الحجم ، وكان من المعالم المميزة فيه تضمينه مسوّداتٍ أصلية عن العمل والعمليات ( الجراحية ) القاسية التي أعملها مبضع ( إزرا باوند ) - فضلاً عن شروحات إليوت نفسه - في النص الأصلي . تساءلتُ حينها : كيف لهذه القامة الشعرية المخيفة ( إليوت ) أن يقبل بفعلة باوند حتى لو كان صديقاً مقرّباً له ؛ بل أنّ إليوت أهداه العمل ووصفه بِـ ( الصانع الأمهر ) ؟ وهل توجد صداقات في الشعر تسوّغُ مثل هذه الأفعال ؟
عندما وقع ناظري على الترجمة الجديدة لفاضل السلطاني للأرض اليباب إنتابني خوفٌ ( وهو فعلٌ يمتلك مشروعيته ) من جسامة المهمّة التي إنبرى السلطاني لها ؛ فالعمل مترجمٌ ستّ مرّات من قبل مترجمين ذوي أسماء لامعة في المشهد الثقافي العربي . تساءلت : ماجديد الأفكار الذي قد يأتي به فاضل السلطاني لهذا العمل ؟ لم تتلاشَ مخاوفي المشروعة هذه إلا بعد أن قرأتُ الكتاب كاملاً ( وهو كتابٌ ليس بالكبير ، يمكن قراءته في جلسة واحدة ممتدة لمن يمتلك الشغف الكافي ) ، وقد جوّد السلطاني في تنقيباته الجديدة وألقى أضواء غير مسبوقة على إشاراتٍ في العمل لم تلقَ إهتماماً مناسباً من قبلُ ، أو جرت الإشارة إليها في سياق غير دقيق . كلّ هذا يحصلُ مقترناً بتسويغاتٍ معقلنة ومعقولة ، وتشكّلُ نوعاً من السياحة الفكرية الممتعة .
تكمنُ أهمية الترجمة الجديدة لفاضل السلطاني في أنّها قدّمت تناصاتٍ معرفية للارض اليباب مع التراث الإنساني ( كما هو متوقّعٌ من عنوان الكتاب ) ؛ فالمعروف عن إليوت ولعه العظيم بموضوعات التراث والموهبة الفردية ، وموضوعات الثقافة ، والتجربة الدينية باعتبارها نسقاً ثقافياً وليس حفراً في مواضعات لاهوتية ( وإن كانت بعضُ موضوعات اللاهوت المسيحي تتبدّى في أحد الأقسام الخمسة من الأرض اليباب ؛ لكنه يأتي في سياق إسقاطات ثقافية وفلسفية تخصُّ التجربة الانسانية ) ، وهنا تترسّخُ قيمة الشعر باعتباره مسعى فكرياً بشرياً يرمي لتحويل التجربة الإنسانية المحلية إلى تجربة عالمية ( وحتى كونية ) مستخدماً وسائل اللغة المتاحة ، والشعر بهذا الوصف لايتمايز عن أي نسق فكري بشري آخر سوى في غائيّته : هو لايسعى لتخليق فهم جديد للوقائع السائدة في الطبيعة بقدر مايسعى لعولمة التجربة البشرية وجعلها متعالية على الحواجز المادية والسايكولوجية ؛ لذا لن يكون – والحالة هذه – أمر التناصات غريباً أو شاذاً بل يحتاجُ عقلاً شغوفاً بالقيمة الميتافيزيقية الكامنة في جوهر كلّ تجربة شعرية عالمية الأبعاد ، وأوقنُ أنّ الناقد خلدون الشمعة قد أجاد عندما وصف مسعى السلطاني المتفرّد في هذه الترجمة بالتوصيف التالي : « لا شك عندي أن سجال فاضل السلطاني مع التناص وإلماعات الأرض اليباب سجالٌ مثيرٌ للإعجاب ، كما أنه يدل من حيث اكتماله على سيطرة معرفية متميزة على جلّ مايتصل بإليوت ونظريته في التراث ..... « .
الترجمة الأنيقة التي أنجزها فاضل السلطاني ، مع كلّ الاشارات المرجعية لتناصات هذا العمل العالمي في التراث الإنساني ، ومقاربته المقارنة لتفاصيل محدّدة من هذا العمل في الترجمات الست السابقة له ، هي جهدٌ تتوجَبُ الاشادة بأهميته المفصلية في عصرٍ يوصفُ بأنّه عصر « مابعد الحقيقة « في أحسن الأحوال ، وبعصر « التفاهة « في أحوالٍ أخرى .
عنوان الكتاب : الأرض اليباب وتناصها مع التراث الانساني
ترجمة النص وإعداد الدراسة المقارنة: فاضل السلطاني
الناشر : دار المدى
سنة النشر : 2021
جميع التعليقات 1
حسين عنون السلطاني
قرائة جميلة جدا تحياتي وتقديري ست.لطفية الدليمي ..كل التقدير والاحترام أستاذ فاضل السلطاني