ترجمة: أحمد فاضل
فرانز كافكا هو المسؤول عن وصولي إلى براغ في البداية ، فقد بدأت أقرأ كافكا بجدية فـي أوائل الثلاثينيات من عمري في وقت شعرت فيه بالفزع الشديد لأجد نفسي أنجرف بعيداً ،
لحكايات كافكا عن التشويش الروحي والطاقات المعوقة ، فإن تلك السنوات الشاقة وفرت لي وسيلة لاختراق كاتب عظيم تهربت مـن همومه سابقاً ، جعلني على استعداد تقريباً لأن أكون ممتناً للعرقلة والارتباك اللذين عانيتهما لبدء الاتصال بأدبه ، إن الـطرق التي سمح بـها كافكا للهوس بملء كل ركن فيها ، والكوميديا الخطيرة الغريبة الـتي كـان قادراً على تأليفها من طقوس الاتهام والدفاع المملة والـمرهقة ، زودتني بعدد مـن الأدلة حول كيفية تقديم الخيال والتعبير عن انشغالاتي الخاصة .
في جامعة بنسلفانيا ، حيث أقوم بتدريس الأدب فصلاً دراسياً واحداً مـن كل عام ، بدأت في قراءة ودراسة روايات وقصص كافكا مع طلابي الجامعيين ، بعد أن قرأوا “ الرسالة إلى أبيه “ التي كتبها كافكا في سن 36 ، كنت أحياناً أسألهم أن يأخذوا كافكا كنموذج لهم ومحاولة كتابة الرسائل على أنها صريحة للذات ، سواء أكانت موجهة للآباء أو الأمهات .
وبسبب اهتمامي بكافكا قررت أثناء سفري في أوروبا في ربيع عام 1972 ، البقاء لبضعة أيـام في براغ لرؤية مدينته ، وفور وصولي إلـى الفندق في ساحة وينسلوس ، قمت بتسليم أمتعتي وبدأت فـي المشي ، مشيت معظم الأيام الأربعة التي قضيتها هناك ، محاولاً بوعي تام أن أنظر إلى كل ما قد ينظر إليه كافكا ، باحثاً عن الأماكن التي عاش فيها هو وعائلته ، وتحديد الشوارع والمواقع المذكورة في رسائله ومذكراته . وكما ورد في سيرة ماكس برود عن الطقوس المتبعة في زيارة قبر كافكا ، أكملت حجّي إليه فـي المقبرة اليهودية في فينوهرادي ، حيث قمت ، مثل أي عدد من الزوار قبلي ، بوضع حصاة على حافة قبره .
في طوافي اليومي بساحة البلدة القديمة حيث كان كافكا في صالة الألعاب الرياضية وكان والده يدير عمله ، كنت أتجول دائماً في الشوارع الجانبية لما كان يوماً ما حي اليهود ، قمت بجولة في تلك المعابد التي احتفظ بها هتلر في براغ فقط من أجل تحويلها ذات يوم إلى متحف لإحياء ذكرى تدميره ليهود أوروبا ، زرت مبنى البلدية اليهودي وعدت كل يوم للسير عبر المقبرة اليهودية القديمة المؤلمة خلف كنيس بينكوس ، داخل الكنيس ، درست عرض صور الفنانين والمثقفين اليهود في براغ الـذين أنشأوا مجتمعاً درامياً وصحيفة ومسرحاً للأطفال ودورياً لكرة القدم في معسكر الاعتقال في تيريزين ، قبل أن يحرقهم النازيون في النهاية ، ، خلال الزيارات الطويلة التي قمت بها على مـر السنين لإنكلترا، فرنسا وإيطاليا ، شعرت بأنني أي شيء آخر غير أميركي عابر ، لكن في غضون الساعات القليلة الأولى من المشي في هذه الشوارع بين النهر وساحة البلدة القديمة ، أدركت أن هناك نوعاً من الارتباط موجود بيني وبين هذا المكان ، الذي لا بد أنه لم يكن يختلف كثيراً في الأيام السابقة عـن تلك الأحياء في منطقة ليمبيرج النمساوية المجرية وكييف القيصرية ، حيث كان فرعا عائلتي يعيشان قبل هجرتهم إلى أميركا فـي بداية القرن، وأثناء بحثي عن معالم كافكا ، كان لديّ لدهشتي بعض المعالم التي شعرت أنها مثل خاصتي .
قبل وصولي إلى براغ في ربيع عام 72 ، كنت قد أرسلت برقية إلى مدير دار أوديون للنشر ، وسألني عما إذا كان بإمكاننا الاجتماع أثناء إقامتي ، في أوائل الستينيات ، نشر
أوديون أول كتابين لي هما : “ وداعاً كولومبوس “ و “ التخلي عن “ ، لقد تلقيت استقبالاً كريماً في دار النشر ، وخلال محادثة لطيفة مـع رئيس الدار وموظفيه ، سألتهم عـما إذا كانوا مهتمين بكتابي المنشور مؤخراً في أمريكا ، رواية “ شكوى بورتنوي ، “ وهجائي من إدارة نيكسون ، قيل لي إن كلا الكتابين لم يعتبرا مناسبين للترجمة مـن قبل السلطات ، علمت لاحقاً أنه في الواقع تم التكليف بترجمة “ شكوى بورتنوي “ ، ترجمة جديدة ، ومـن الواضح أنها اكتملت في عام 1969 ، ولكن تم حظر نشرها في النهاية بسبب محتواها الجنسي .
كما اتضح ، لم تكن السلطات التشيكية وحدها هي التي اعتبرت هذين الكتابين غير مناسبين للقراءة للمواطنين التشيك، وافقت السلطات الأميركية في واشنطن ، في تقييم “ شكوى بورتنوي” الذي أعدته وكالة المعلومات الأميركية - التي تشرف على المكتبة العامة الملحقة بالسفارة الأميركية في براغ ، بالإضافة إلى مكتبات السفارات الأخرى في الخارج - تم اقتراح ذلك بسبب ما وُصف بأنه “غريب “الجنس المصور في الرواية ، قد يكون من الأفضل استبعاده من المكتبة المدعومة من الحكومة. فقط خلال زيارتي الأخيرة إلى براغ ، في أبريل 1975 ، علمت بالإقصاء المنهجي مـن المكتبة لتلك الروايات من قبل الكُتّاب الأميركيين الذين أعاروا الأنشطة المثيرة التي اعتبرتها غريبة “ ، مسؤولون فـي واشنطن ، عند عودتي إلى أمريكا ، كتبت رسالة إلى جيمس كيو ، مدير وكالة الولايات المتحدة الأميركية ، سألته عما إذا كان يشرح لي الإرشادات التي تستخدمها وكالته في تحديد الكتب التي توصي بإدراجها في الولايات الـمتحدة الأمـيركية ، مكتبات في تشيكوسلوفاكيا وحول العالم ، والتي بدلاً من الرد على استفساري بأي شيء يشبه الحقائق الثابتة ، انتهى الأمـر بالتعبير عن الامتنان لاهتمامي ببرنامج الوكالة .
الراحة الوحيدة التي استطعت أن آخذها من رسالة السيد كيو - واعتبرها مصدر راحة كبيرة - هي معرفة وكالته ، في حين أنها قد تستبعد من المكتبات التي ترعاها الحكومة (والمدعومة من الضرائب ) فـي الخارج ، الكتب التي تجدها مزعجة ، وأعتقد أنه لا يمثل “ الأفضل “ في الحياة الأميركية ، عاجز تماماً عن التدخل فـي نشر وتوزيع الكتب في أميركا ، الأمر المؤسف بالطبع هو أننا ، يجب أن نرغب في أن نقدم للتشيك ، أو لأي شخص ، فكرة أن أدبنا أكثر تحكماً مما هو عليه الحال في الواقع ، خاصة وأن غياب الضوابط ، السياسية وغير ذلك ، هو ما يميز حياتنا الثقافية عن حياتهم .
كان هذا الاختلاف بالتحديد هو الذي عمّق فضولي بشأن تشيكوسلوفاكيا ، كان الغرض من زيارتي الأولى إلى براغ هو معرفة المكان الذي عاش فيه فرانز كافكا ، عدت إلى براغ لأنني أردت أن أعرف كيف تمكن من العيش هناك ، والعمل في ظروف كانت غريبة تماماً ، وعندما كنت مستعداً للعودة إلى براغ في زيارة لمدة أسبوعين في الربيع التالي ، كنت قد قرأت كل مـا يمكن أن أجده في الترجمة ،الروايات والقصص والقصائد والمقابلات والمقالات والخطب لأهم الكتاب التشيكوسلوفاكيين المعاصرين ، أنا متردد في أن أذكر على وجه التحديد الكُتَّاب الـذين بحثت عنهم وتعرفت عليهم عندما عدت إلـى براغ فـي ربيع عام 72 ، في زيارتين لاحقتين ، أصبحوا أصدقاء لـديّ لهم قدراً كبيراً من المودة والتقدير .
من بين زياراتي هذه ، نشأت صداقات شخصية ، وكذلك الاهتمام بالأدب التشيكي الحالي ، والذي بدوره شجعني على قراءة أعمال الروائيين الذين كانوا يعملون في جميع أنحاء أوروبا الشرقية منذ نهاية الحرب العالمية مترجمة ، ثانياً ، قبل عام ، بعد فترة وجيزة من عودتي من زيارة إلى بودابست
تمكنت من جذب اهتمام دار نشر بنجوين لبدء سلسلة معاد طبعها يُطلق عليها “كُتّاب من أوروبا الأخرى “ ، في هذه السلسلة التي أنا المحرر العام لها ، سيتم نشر ثلاثة أو أربعة كتب لبعض الروائيين البارزين الذين يعيشون ويعملون في بلدان أوروبا الشرقية كل عام ، مع مقدمات للمساعدة في وضعها في سياق أدبي وتاريخي من أجل القراء الأميركيون ، “ الحب المضحك “ أول كتاب من تأليف التشيكي ميلان كونديرا ، و “ خنازير غينيا “ للودفيك فاكوليك ،
وسيتبعهما كتابان بولنديان هـما عبارة عن قصص معسكر
الاعتقال ، ورواية لتاديوس كونويكي حملت عنوان “ كتاب أحلام أوقاتنا “ ، وهي رواية محيرة ومروعة عن حرب أحد رجال العصابات السابقة ، تطارده ذكرياته عن الدماء التي أراقها هو وآخرون خلال الحرب العالمية الثانية ، في اليوم الآخر فقط تلقيت رسالة من الناشر السيد كونويكي البولندي تعبر عن فرحه لصدور هذه الروايات .
عن / صحيفة نيويورك تايمز