رواء الجصاني
لا يبدو أن هناك منتهى للكتابة والتوثيق عن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (1899-1997) منجزاً، وحياةً، برغم احدى وعشرين أطروحة دكتوراه، وثلاث عشرة رسالة ماجستير،
أجيزت عنه، ونحو ستين كتاباً ومؤلفاً رصيناً، ومئات من الدراسات والمقالات والاستذكارات، دعوا عنكم اللوحات والصور والتخطيطات الفنية .. وكل تلك الأرقام هي في الحدود الدنيا، ونعني ما هو مرصود وموثق لدينا الى الآن.(1)..
نشير الى ذلك في بدء هذه التأرخة، واضحة العنوان على ما نتوقع، والتي تأتي بعد ما نشرناه في محور مشابه، على النطاق (الجغرافي) العربي، واستقطب اهتماماً ملحوظاً، مما شجعنا لنستمر في تثنية الامر ليكون على النطاق العالمي هذه المرة (1)..
وانطلاقة الجواهري العالمية - الإنسانية، شعراً واغتراباً، وأحاسيس وإعجاباً، أومشاركة في مؤتمرات وفعاليات ومناسبات ثقافية وغيرها، بدأت وهو في مطلع عشريناته، واستمرت لنحو سبعة عقود، وآخرها - كما سنرى في الاستطرادات اللاحقة - عام 1995 وهو السادسة والتسعين من العمر، أي قبل رحيله الى الخلود بنحو عامين ليس إلا.. وجميع تلكم المشاركات كانت، أو كادت، بـ»أخف ما لــمّ من زاد أخو سفرِ» على حــدّ تعبيره، صدقاً، بعيداً عن البهرجات أو المبالغات. أما الغايات من وراء تلكم الأسفار، المعلن منها أو غير المعلن، فكانت الاضطرار والاغتراب القسري، والتمرد أحياناً، وعشق التغيير وشغف الاطلاع واستشفاف الآفاق، أحياناً أخرى.. وبإختصار: حب الحياة والجمال والتنور، والتنوير. وهكذا وبهدف التوثيق الأوضح سنلاحق ونرصد «سياحة» الجواهري، وأشعاره، في العديد من مدن وعواصم الدنيا، بحسب تسلسلها الزمني، برغم أن هناك اسبقيات وأهميات تختلف في بعضها عن البعض الآخر:
1/ في طهـران عام 1924
كانت الزيارة الأولى للجواهري الى إيران عام 1924 وهي أيضاً أولى سفرياته الى خارج العراق .. ثم اضطر للذهاب إليها ثانية عام 1941 احترازاً من تطورات الأوضاع السياسية في البلاد العراقية بعــد أحداث ما كان - وما زال- يعرف بحركة مايس.. أما الزيارة الأخيرة الى إيران فكانت عام 1992 تلبية لدعوة رسمية رفيعة، استقبله خلالها المرشد الأعلى في الجمهورية السيد علي خامنئي. ولم تقتصر تلك الزيارات على العاصمة طهران، بل شملت مدناً ومناطق عديدة في البلاد الإيرانية..
ومما يرصد عن شعر الجواهري في إيران أو عنها، بعض وصفياته، وحنينه، خلال زيارته الأولى، ومنها في قصيدة «الأحاديث شجون» :
جَدّدي ريـحَ الصّبـا عهد الصّبـا، وأعيدي فالأحاديث شُجُونُ..
جدّدي كيف أطّراحي فارساً، ولمرأى وَطَني كيفَ الحنينُ...
جددي ذكر بلادي إنني، بهواها أبـدَ الدهر رهيـــــنُ
انا لي دينان: دين جامعٌ،وعراقي وغرامي فيه دينُ
2/ وفي باريس عام 1945
يصل الشاعر الكبير العاصمة الفرنسية باريس في طريقه الى بولندا عام 1946 للمشاركة في مؤتمر حاشد، أول من نوعه لمثقفي العالم، كما ستبيّنه الفقرات اللاحقة .. ثم يعود لها عام 1948 ليقيم في رحابها فترة امتدت بضعة أشهر، يكتب خلالها بانوراما «أنيتا» ذائعة الصيت، بأربعة فصول، أثـر واقعة حب عنيفة.
كما يحدث أن يزور باريس من جديد عام 1963 قادماً إليها من مغتربه في براغ، رئيساً لوفد «اللجنة العليا لحركة الدفاع عن الشعب العراقي» ضد الإرهاب والقمع التي تأسست بعد الانقلاب البعثي، الدموي، الأول في شباط 1963.. اما آخرعهده في باريس فكان عام 1984 حيث أجرى فيها – قادماً إليها من مغتربه في دمشق- عملية جراحية دقيقة لعينيه، برعاية رسمية سوريّة..(2).
أما ما نوثقه هنا عن شعـره « الفرنسي» أو عن فرنسا، فهو من قصيدته «باريس» المنشورة مقتطفات منها عام 1948:
تعاليتِ « باريسُ» أمَّ النضالْ، وأمَ الجمال، وأمَّ النغـمْ
تَذوَّبَ فوقَ الشِفاهِ الألَم، وسال الفؤادُ على كلِّ فــم
تَضيعُ الحرارةُ بينَ الوصالْ، وبين التّنائي وبين الملالْ
كأنّكِ شمسُك بينَ الجبال، تغازلُ حينت لوحُ القِمَمْ
3/ وفي وارسو عام 1945
كان أول «المقامة» الجواهرية في بولندا بعيّد انتهاء حرب القرن الماضي، العالمية الثانية، حين دُعي الشاعر الكبير للمشاركة في مؤتمر عالمي للمثقفين من أجل السلام عقد عام 1945 بمدينة « فروتسواف» غربي بولندا، وقد كان العربي الوحيد فيه، الى جانب شخصيات عالمية لامعة من أبرزها، الرسام الفرنسي الشهير بابلو بيكاسو. وقد جاءت الدعوة للجواهري باعتباره ناشطاً وطنياً مميّزاً، وداعية للسلام والحرية، كما تؤكد ذلك قصائده وكتاباته، ومواقفه خلال وبعد حرب القرن الماضي، العالمية الثانية... (3).
وبحسب الجزء الثاني من ذكريات الشاعر الخالد، فأنه زار «فرصوفيا- وارسو» ثانية عام 1963 أي بعد 15 عاماً من أول زيارة لها. ويؤرخ ديوانه العامرعن الأمر، شعراً، حين القى هناك رائعته متعددة القافية، أمام مؤتمر للطلبة العراقيين، وجاء في مفتتحها:
(فـرصـوفيـا): يـا نجمـةً تَـلالا،
تُـغـازلُ السُـهـوبَ والتّـلالا
و تَسـكُب الرقّـةَ والـدّلالا
فوقَ الشفاهِ الظامئاتِ، الحامياتِ الحانية..
أما الزيارة الثالثة للجواهري فكانت عام 1985 حين لبّى دعوة رسمية للمشاركة في احتفال نظم في العاصمة البولندية – وارسو، بمناسبة الذكرى اليوبيلية الأربعين لمؤتمر المثقفين العالمي، سابق الذكر .
4/ في لندن عام 1947
وردت (بريطانيا) ولندنها في شعر الجواهري، في عدد من قصائده قبل أن يزورها بسنوات عديدة، وشملت، من بين ما شملت، انتقادات لسياساتها في العراق خلال العهد الملكي. أما زيارته الأولى لها فكانت عام 1947 ضمن وفد صحفي، وثمة الكثير من التفاصيل عن ذلك وردت في الجزء الثاني من ذكرياته، واهمها اللقاء هناك مع الضابط العسكري عبد الكريم قاسم، والذي تزعم لاحقاً كما هو معروف حركة 14 تموز 1958 التي أسست الجمهورية العراقية الأولى .. وقد كتب من وحي تلك الزيارة مقاطع شعرية قصيرة ومن بينها :
مَلِلتُ مُقاميَ في لندنا، مُقامَ العَذارى بدور الزِنـا
مُقام المسيح بدارِ اليَهودِ، مُقام العذابِ، مُقام الضَنى
وفي موقف مناقض للبيتين السابقين أعلاه، ولأنه أُعجب خلال الزيارة بـحسناء «لندنية» كما يبدو، راح يكتب عنها بضعة أبيات غزل، ومنها:
يا « جينُ « لطفُ الخمر، أنّكِ كنتِ ماثلةً حِيالي..
ما شاءَ فليكتبْ عليَّ، الدهرُ، إنّي لا أُبالي
إذ كان خَصْرُكِ في اليمينِ، وكان كأسي في الشِّمال
كما يزور لندن بضعة أيام عام 1963 ضمن نشاطات تضامنية – سياسية، بوصفه رئيساً للجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي، التي تأسست في براغ بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963.. كما نزلها – لندن- منتصف السبعينيات الماضية، فترة قصيرة، لتطبيب عينيه، ليزورها بعد ذلك للمرة الأخيرة عام 1991 ويقضي فيها بضعة أسابيع بدعوة شخصية، فُجـع خلالها بوفاة زوجته (آمنة) هناك مطلع عام 1992 ..
* يتبع الجزء الثاني والأخير
هوامش وإحالات
** المصادر: ديوان الجواهري، كتاب «ذكرياتي» للشاعر الخالد، بجزأين.. اضافة الى وثائق ومعلومات خاصة وشخصية.
1/ لمزيد من التفاصيل: مادة منشورة لنا في مواقع اعلامية عديدة، على الانترنيت بعنوان الجــواهري» شعـرٌ وزيارات، واحتفاءات حميمة، في أربعة عشـر بلـدا عربيا».
2/ لمزيد من التفاصيل عن «المقامة» الفرنسية: كتابنا « الجواهري .. بعيون حميمة» الصادرعام 2016 في بغداد وبراغ.
3/ لمزيد من التفاصيل: مادة منشورة لنا على الانترنيت، ومواقع اعلامية عديدة، بعنوان «الجواهري: قصيدة… وثلاث زيارات لبولندا » .