متابعة: المدى
(جورجيو أغامبين) فيلسوف إيطالي ، يهتم بشكل خاص بتاريخ المفاهيم ، خاصة في فلسفة العصور الوسطى وفي دراسة الأنساب لفئات القانون واللاهوت،
لقد مارست الأعمال الفلسفية المعاصرة على قرائها . وقد حظيت كتاباته باهتمام وتقدير متزايد في الأوساط الأكاديمية والثقافية والإعلامية. لكن نجمه ارتفع وعلا بعيداً جداً حين نشر عدداً من المقالات حول فايروس كورونا وتأثيره على مستقبل البشرية ، حيث يرى الفيلسوف الإيطالي أن الجائحة -التي تشكل أكبر تهديد للأمن البشري منذ الإنفلونزا الإسبانية قبل قرن من الزمان- تجعل إنسانيتنا المشتركة تشكل تهديداً أمنياً محتملاً، فالعدو داخلنا هذه المرة وليس تهديداً خارجياً، إذ ينظر الناس لبعضهم بعضاً على أنهم حاملون متوقعون للفايروس.
وفي مقاله المنشور بمنصة كودليبت الإيطالية لعروض الكتب، يرى أغامبين أن هناك حاجة متنامية إلى الدين تظهر بشكل واضح في الزمن الحالي. ويستدل الفيلسوف الإيطالي عليها بملاحظة المصطلحات المستعارة من المفردات الدينية الآخروية التي يتم استخدامها بطريقة مهووسة ومتكررة في وسائل الإعلام المختلفة -ولا سيما الصحافة الأميركية- التي تستخدم تعبيرات "نهاية العالم" باستمرار.
ويتابع أغامبين القول إن الحاجة للدين -التي لم تعد الكنيسة قادرة على تلبيتها- كانت تتلمس طريقها في موطن بديل، حتى وجدته أخيراً فيما بات يعرف بـ "دين العصر" أي العلم، على حد تعبيره.
ويرى الفيلسوف والمنظر القانوني الإيطالي أن "العلم" في عصرنا "يشبه الأديان في قدرتها على إنتاج الأساطير والمخاوف" في وقت الأزمات، على حد تعبيره، ويتابع "نشهد حالياً وصفات علمية مختلفة ومواقف متباينة تتراوح بين أقلية مهرطقة (يمثلها أيضا علماء معروفون) تنكر خطورة الظاهرة، وخطاب أرثوذكسي سائد يؤكد خطورتها الحقيقية، ومع ذلك غالباً يختلف هؤلاء جذرياً في كيفية التعامل مع الأمر ومكافحة الجائحة".
وكما هي الحال دائماً في هذه الأمور، يقف بعض الخبراء، أو من يخدمون مصالح السلطة التي تفرض تدابيرها الاحترازية، مع تيار معين يميل لوجهة النظر هذه أو تلك، ويشبه الأمر أوقات النزاعات الدينية التي قسمت المسيحية عندما وقف الخبراء، لمصالحهم الخاصة، مع تيار أو آخر، بحسب تعبير أغامبين.
الأمر الآخر الذي يعطل التفكير هو الانهيار الواضح والتفكك الصريح لجميع القناعات والمعتقدات، بحسب الفيلسوف الإيطالي الذي يرى أن الناس "لم يعودوا يؤمنون بأي شيء غير الوجود والحياة البيولوجية العارية (المجردة)، التي يجب الحفاظ عليها بأي ثمن".
وكان أغامبين قد انتقد في مقال سابق ما سمّاه استعداد "الإيطاليين للتضحية بكل شيء -بما في ذلك الحياة العادية وعلاقاتهم الاجتماعية والعمل والصداقات والمعتقدات الدينية والسياسية- لتلافي خطر الإصابة بعدوى كورونا".
ويرى أغامبين أن هذا الخطر المشترك لا يوحّد الناس وإنما يعميهم ويعزلهم عن بعضهم البعض، إذ ينظر للبشر حالياً على أنهم مصدر عدوى وخطر محتمل، محذراً من أن "الخوف من فقدان الحياة يسهل أن ينبني عليه استبداد وحشي"، مستدعياً صورة وحش لوياثان الشيطاني المعروف في الديانتين المسيحية واليهودية.
ويشتهر الفيلسوف الإيطالي بكتابه "حالة الاستثناء.. الإنسان الحرام" الذي يعتبر أن السلطات تستخدم الظروف الاستثنائية لتبرير تعطيل القانون وحيازة السلطة المطلقة، مشيراً لتحولها إلى حالة دائمة حتى في النظم الدستورية الديمقراطية.
وأثار مقال أغامبين جدلاً هائلاً بين فلاسفة أوروبيين، ورد الفيلسوف السلوفيني الشهير سلافوي جيجيك بأن رد فعل الفيلسوف الإيطالي هو نسخة متشدّدة من الموقف اليساري الشائع للنظر إلى الذعر والهلع كممارسة سلطوية للضبط والمراقبة والعنصرية.
أغامبين ناقش في كتابه العلاقة بين القانون والاستثناء وإمكانية دسترة الاستثناء أو تقنينه في المنظومة القانونية الليبرالية (الجزيرة)
ويرى المؤلف وأستاذ الفلسفة السياسية الإيطالي ماسيمو دي كاروليس أن إجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي مثيرة للقلق، "فهي تحل الرابطة الاجتماعية وتفرض نظاماً من العزلة وسيطرة الشرطة على جميع السكان، وهو تذكير بالتجارب الأكثر ظلمة لماضينا السياسي الحديث".
ويتابع دي كاروليس أن النقطة الحاسمة هي تبيين ما إذا كانت الإجراءات مؤقتة أم أننا نشهد بدلاً من ذلك اختباراً عاماً لما يمكن أن يصبح حال الحياة العادية في مجتمعات المستقبل القريب.
ويبرر الأكاديمي الإيطالي شكوكه "بحقيقة أن تدمير الروابط الاجتماعية والسيطرة باسم "الصحة العامة" لم يأتيا بالتأكيد مع الفايروس المستجد، فلقرن على الأقل، تميل الآليات الاجتماعية الحديثة إلى إنشاء مجتمع قائم على العزلة، حيث يُنظر إلى عفوية الحياة الاجتماعية على أنها عقبة أو حتى تهديد لاستقرار النظام".
وبينما كان نظام الإنتاج في الماضي لا يعمل دون تقارب الناس واختلاطهم وعمل الأصوات والأيدي معاً، لكن اليوم يمكن الفصل بين الناس وعزلهم بسبب التكنولوجيا، مؤكداً في الوقت نفسه أن التغيرات الاجتماعية ليست نتاج مؤامرة ما وإنما محصلة لعوامل وقوى مختلفة.
من جانبه، علّق الفيلسوف والكاتب الإيطالي سيرجيو بنفينوتو بأن الذعر الذي أصاب بلاده كان في الأساس خياراً سياسياً، لأنه في عصر تنتج فيه الديمقراطيات العظيمة "قيادات بشعة"، فإن المنظمات الدولية -مثل منظمة الصحة العالمية- تتخذ قرارات من شأنها تصحيح نزوات الفاشية الجديدة في ديمقراطيات اليوم، بحسب مقاله المترجم من الإيطالية للمجلة الأوروبية للتحليل النفسي.
ويلاحظ الفيلسوف الإيطالي أنه في جائحة الإنفلونزا الإسبانية 1918، تصرفت السلطة السياسية بطريقة معاكسة تماماً، فقد أخفت الوباء، لأنه في معظم الحالات كانت الدول المعنية في حالة حرب، وسُميت الإنفلونزا "الإسبانية" ببساطة لأنه في ذلك الوقت، وفقط في إسبانيا -التي لم تكن في حالة حرب- تحدثت وسائل الإعلام عن المرض، الذي يبدو أنه نشأ في الولايات المتحدة.
ولكن القوى السياسية اليوم -التي يؤكد أنها عابرة للحدود والاقتصاد وتتخطى الحدود الوطنية- تتبع ستراتيجية الذعر، لتشجيع الناس على عزل الفايروس. وبالفعل، فإن عزل المصابين لا يزال -بعد قرون- أفضل ستراتيجية لقمع الأوبئة المستعصية، إذ تم احتواء الجذام في أوروبا -كما يؤكد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أيضاً- على وجه التحديد عن طريق عزل المصابين قدر الإمكان، وغالباً في جزر بعيدة.
عن / بي بي سي