ترجمة: المدى
قام الفيلسوف الإيطالي روبرتو إسبوزيتو بتأليف العديد من الكتب المؤثرة، بما في ذلك ثلاثية (أصل ومصير المجتمع)
التي ترجمت الى الانكليزية ونشرتها مطبعة جامعة ستانفورد عام 2004 ؛ وكانت قد نشرت في الأصل باللغة الإيطالية عام 1998، و(المناعة : حماية ونفي المجتمع) التي نشرت بالانكليزية في عام 2011 ؛ ونُشرت في الأصل باللغة الإيطالية عام 2002، و(السياسة الحيوية والفلسفة) التي ترجمها تيموثي كامبل ونشرتها مطبعة جامعة مينيسوتا عام 2008 ؛ ونُشرت في الأصل باللغة الإيطالية في عام 2004، وفي هذه الأعمال، يوضح إسبوزيتو العلاقة بين المجتمع وآليات التحصين في السياسات الحيوية الحديثة،
ويميز السياسة الحيوية الحديثة من خلال التوتر بين العيش في المجتمع وتحصين السكان من الأخطار التي تهدد صحتهم، فعلى الرغم من أن هذه الآليات المناعية ضرورية، إلا أنها تميل أيضاً إلى تقويض متطلبات الحياة المجتمعية، وإذا تم تجاوز حد معين، يمكن للآليات المناعية أن تنقلب ضد المجتمع المفترض حمايته، ونظراً لأهمية العلاقة بين المناعة والمجتمع في أعمال روبرتو إسبوزيتو - الذي يعمل حالياً من منزله في نابولي –أجريت معه هذه المقابلة التي دار فيها :
لقد قلت إن فكرة الحصانة التي عملت عليها بالفعل مهمة للغاية في هذه الأزمة، كيف ترى العلاقة بين المناعة الفايروسية والحصانة السياسية أو السياسية الحيوية ؟
- نحن جميعاً نسعى إلى الحصانة بشكل أو بآخر، حتى أن هناك تطبيقاً في إيطاليا،تم تطويره لتتبع الحركات وإخطار الأشخاص عند تعرضهم لشخص مصاب، حتى أقنعة الوجه والتباعد الاجتماعي هي جزء من الموقف المناعي تجاه التفاعل البشري، لذا، فإن المناعة هي جوهر الحياة اليومية اليوم، طبعاً للحصانة أبعاد مختلفة سياسياً وقانونياً واجتماعياً وطبياً، لذلك دعونا نقول إن عملية التحصين لها تاريخ أطول بكثير، من بعض النواحي، يتزامن تاريخها مع تاريخ الحداثة نفسها، إذ نشأت الحداثة على وجه التحديد من الحاجة إلى بناء الحماية عندما فُقدت الأدوات الدينية من العصور الوسطى، وكان الحداثيون هم الأشخاص الذين رأوا أنفسهم معرضين للعديد من المخاطر وبدأوا في بناء أجهزة مناعية لحماية أنفسهم بدلاً من الاعتماد على نوع من الخلاص من الله، كان أهم واحد من بين هذه الأجهزة هو الدولة، فالدولة هي جهاز مناعي عظيم لحماية الحياة، كما قال هوبز، والقانون هو أيضاً جهاز مناعي ضد النزاعات التي من شأنها أن تدمر المجتمع، وفي العصر الحديث، كان هناك تسارع شديد في الحاجة إلى الأمن المناعي، واليوم، أصبحت المناعة، في رأيي، المحور الذي يدور حوله كل كوننا الرمزي الحديث، ومع ذلك، فإن المناعة أمر متناقض: فهي تولد مخاطرأيضاً، ولربط هذا بالأزمة المعاصرة، أثناء الوباء، أصبح التداخل بين السياسة والطب مركزياً تماماً، فمن ناحية، أصبح الطب مسيساً في الأزمة، كما يتضح من الصراعات بين علماء الفايروسات وعلماء الأوبئة حول ما يبدو أنه أسئلة علمية بحتة، وهذه، في الواقع، هي أيضاً ذات طبيعة اجتماعية وجغرافية سياسية، ومن ناحية أخرى، أصبحت السياسة ذات طابع طبي، حيث تعامل المواطن على أنه مريض يحتاج إلى رعاية دائمة، وتحول الانحراف الاجتماعي إلى اضطراب وبائي يجب علاجه أو قمعه، وبالطبع، هذا له عواقب وخيمة للغاية، إذ إن تكليف الأطباء بمهمة صنع القرار السياسي، من ناحية، يقلل بشدة من نطاق العمل السياسي،ويجعل الانحراف حالة مرضية.
هل ترى فرقاً بين الستراتيجيات السياسية لبعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة على سبيل المثال؟ في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، كان الناس يتحدثون عن مناعة القطيع، بينما سرعان ما اتجهت الحكومات في إيطاليا أو فرنسا إلى الإغلاق؟
-(مناعة القطيع) هي كلمة ممتعة، وهي تذّكرنا بمفهوم فوكو عن السلطة الرعوية بقدر ما تعمل الحكومة كراعٍ للسكان كقطيع، نعم، هناك اختلاف واضح تماماً بين سياسات الدول اللاتينية، مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، التي تم إغلاقها جميعاً، وبعض البلدان الأخرى، ففي البداية تم إغلاق إيطاليا فقط، ولكن بعد ذلك تبعها الآخرون بسرعة، على الجانب الآخر، حاولت المملكة المتحدة والولايات المتحدة وحتى بعض دول أوروبا الشمالية مثل السويد في البداية اتباع مسار مناعة القطيع هذا، لكن هذا الاختيار، بصراحة، هو شكل من أشكال تحسين النسل، وفي بعض النواحي حتى غير سياسي، لأنه يستتبع موت عدد كبير من الناس الذين كانوا سيعيشون لولا ذلك، ومن أجل تطوير مناعة القطيع، فإن العديد من الأشخاص الأضعف محكوم عليهم بالموت، كما اعترف بوريس جونسون أيضاً عندما قال إن «العديد من العائلات ستفقد أحباءها قبل أوانهم»، ومع ذلك، سرعان ما غيرت هذه البلدان مسارها. واختارت المملكة المتحدة والولايات المتحدة أيضاً عمليات الإغلاق في نهاية المطاف، وإن كانت بأشكال مختلفة عما شهدناه في أوروبا القارية، لنفترض أن تقييمي لمناعة القطيع هو تقييم سلبي إلى حد ما: فهو يعمل كشكل من أشكال أمراض المناعة الذاتية، أي أنه يحاول حماية الحياة من خلال موت جزء من السكان، ويعتمد الشكل الوحيد غير السلبي للمناعة على مستوى السكان - أي المناعة التي لا تعتمد على التضحية بالضحايا الأبرياء - على اكتشاف لقاح، ويتعارض الإغلاق المناعي، بما يتجاوز حداً معيناً، مع كل من الحرية الفردية ومتطلبات الحياة كمجتمع، لذا فإن عمليات الإغلاق هي أيضاً أجهزة مناعية محفوفة بالمخاطر تسبب العديد من المشكلات التي لم نكتشفها إلا منذ أسابيع قليلة. لكن، في رأيي، لا تزال أفضل من مناعة القطيع.
يقال إن إجراءات التباعد الاجتماعي والعزلة تقوض النسيج الاجتماعي. هل توافق على هذا الرأي؟
-التعبير عن التباعد الاجتماعي متناقض تماماً، لا يمكن أن يكون التباعد اجتماعياً، كما أن التباعد دائماً ما ينتج عنه تأثيرات إزالة الاشتراكية وتقليل أشكال الحياة المجتمعية- في رأيي - كما هو الحال مع المناعة، إنها مسألة قياس لإيجاد التوازن الصحيح، بمعنى أن جميع الأجسام البشرية والاجتماعية تحتاج إلى درجة معينة من التحصين، ولكن يجب توخي الحذر من التطرف، فلا يوجد فرد واحد أو جسد اجتماعي ليس لديه جهاز مناعة، وإنه سيموت بدون حماية ودرجة معينة من التحصين، إن نظام المناعة ضروري للبقاء، ولكن عندما يتجاوز عتبة معينة، فإنه يبدأ في تدمير الجسم الذي يهدف إلى الدفاع عنه، ويتم تجاوز هذه العتبة تماماً عندما يتطلب التباعد الاجتماعي تمزيقاً تاماً للروابط الاجتماعية، في تلك اللحظة، يصبح نزعة معادية للمجتمع. ومن الواضح أن النسيج الاجتماعي لا يصمد إلى ما وراء مستوى معين بل يتفكك ثم ينهار، إن أهم ما يميز حالة الإنسان هو العلاقات الاجتماعية، فالحياة بدون مثل هذه العلاقات، لا يمكن أن تحافظ على المجتمع لفترة طويلة ؛بل سيكون مجتمعاً قائماً بالكامل على الحياة المجردة، لكنه لن يستحق العيش.
المنطقة التي تأثرت بشدة بهذه الأزمة هي الجامعة، ففي الوقت الحالي، يتم إجراء جميع الأبحاث والتدريس عبر الإنترنت، ما رأيك في هذا التحول الرقمي لنظام التعليم العالي؟
-أعتقد، إلى حد ما، أن هذه الطريقة لها أيضاً بعض المزايا اليوم، على سبيل المثال، لا يزال يسمح بجهات اتصال مثل (سكايب)، ولكن حتى هذه الطريقة التي أعتبرها، في حد ذاتها، سلبية في الغالب، لأنها تؤدي أيضاً إلى نزع الطابع الاجتماعي. كما أن جميع المجموعات البحثية ومجموعات الدراسة والمكتبات والحرم الجامعي والكليات الجامعية معرضة لخطر الزوال فالصفوف الدراسية الرقمية بالكامل ليست بديلاً مناسباً للحياة الطلابية.. إن التدريس عبر الإنترنت ضروري. ولا يزال أفضل من لا شيء، لكن يجب أن يكون محدوداً في تطبيقه.
دعونا ننتقل إلى الجانب الاقتصادي للوباء للحظة فمن ناحية، تم إغلاق الاقتصاد لأسباب طبية، ولكن من ناحية أخرى، هناك بعض القطاعات التي تستفيد منه، مثل القطاع الرقمي، إذ تستفيد شركات مثل أمازون من الأزمة، بينما يتعين على العاملين في هذه القطاعات العمل بجد وتعريض أنفسهم لمخاطر كبيرة للإصابة. وينطبق هذا أيضاً، على سبيل المثال، على الطاقم الطبي وعمال المصانع، ما رأيك بهذا؟
- تُظهر هذه الأزمة الوبائية مدى عمق عدم المساواة في مجتمعنا، إذ أصبح للاقتصاد والصحة العامة الآن تأثير سلبي على بعضهما البعض، حيث تقوض المتطلبات الطبية بشكل فعال الدورة الاقتصادية،وكما قلتم. بعض الوظائف تستمر، والعديد من الوظائف الأخرى لا تستمر، ولكن الأهم من ذلك، أن العمال الأضعف، مثل المهاجرين، معرضون للمخاطر، في حين يُسمح للعمال الأكثر حماية بتجنب هذه المخاطر، لقد قُسمت تدابير الصحة العامة الاقتصاد إلى قسمين، فهو يفاقم التمييز الموجود بالفعل في اقتصادنا بين العمال المستغَلين وبعض الفئات المتميزة التي تستفيد مالياً حتى من هذا الوباء مثل جوجل وأمازون، ولكن أيضاً هناك مجموعات صناعية كبيرة تستغل هذه الأزمة لزيادة أرباحها، وأصبح عمال هذه الشركات، مثل سائقي التوصيل، وعمال المستودعات، وغيرهم كثيرون، في حالة شبه عبودية، إنهم يفعلون كل شيء للحفاظ على وظائفهم، لكنهم يضطرون إلى العمل في بيئات خطرة بشكل متزايد. من وجهة نظري، هذا يدل على أن مجتمعنا الرأسمالي هو في الأساس مجتمع غير متكافئ، وفي المواقف الحرجة، يصبح هذا التفاوت أكثر وضوحاً..
في كتاباتك تذكر بانتظام «السياسات الحيوية الإيجابية» كطريقة بديلة للعيش مع بعضنا البعض، على عكس سياسات ثانوية، فإن السياسة الحيوية الإيجابية ستعرف كيف تؤكد الحياة دون خلق ردود فعل ذاتية. ماذا يعني ذلك اليوم؟
- الفايروس هو حقيقة للأسف ولن نتمكن من الهروب منه في أي وقت قريب. وطالما لا يوجد لقاح، فسنضطر إلى التعايش مع الفايروس بدافع الضرورة. لكن هذه ليست سياسة بيولوجية إيجابية. وبدلاً من ذلك، يركز الشكل الإيجابي للسياسات الحيوية على الاستثمارات الضخمة في مرافق الصحة العامة، وبناء المستشفيات، وجعل الأدوية ميسورة التكلفة أو إعطاء الأدوية مجاناً، والحفاظ على ظروف معيشية مريحة للسكان، وحماية الأطباء والممرضات الذين ماتوا أثناء الوباء. على سبيل المثال، يعلم الجميع أنه في إفريقيا، حتى قبل هذا الوباء، كانت هناك مشاكل خطيرة مع الأمراض المتوطنة، مثل الإيدز والإيبولا، ولمواجهة هذه الأزمات، على شركات الأدوية خفض أسعار الأدوية إذ يتم زيادتها الآن بشكل مصطنع عبر حقوق الملكية الفكرية على حساب حياة الأفارقة، سيتم إنقاذ الكثير من الأرواح إذا انخفضت الأسعار، وهذه المعركة ضد الصناعات الدوائية أمر بالغ الأهمية، هذا ما يمكن أن أسميه شكلاً إيجابياً للسياسة الحيوية، من وجهة نظري، تعني السياسة الحيوية الإيجابية أيضاً، على سبيل المثال، إلغاء خصخصة إمدادات المياه، واستصلاح الغابات وحمايتها، وكذلك مكافحة عدم المساواة التي ذكرتها للتو. ففي إيطاليا، كانت هناك معركة كبيرة حول إبقاء إمدادات المياه علنية والدفاع عن الأراضي العامة، لكن هذه المبادرات تتعطل حاليًا بسبب تدابير مكافحة الوباء، يجب استئناف هذه النضالات كجزء من إعادة الهيكلة الخضراء للاقتصاد- في الوقت الحالي - التعايش مع الفايروس هو الوضع الذي نحن فيه، لكنه ليس خيارنا، يمكن للإجراءات الأخرى التي ذكرتها أن ترسي سياسة إيجابية ومفيدة لحياة الإنسان