د. حسين الهنداويباحث عراقيبين ثورتي ١٤ يوليو/تموز الفرنسية والعراقية اللتين تمر مناسبتهما هذا الاسبوع هل هناك اوجه مقاربة او مقارنة او علاقة تذكر؟ عديدون بلا شك العراقيون، من اليساريين والقاسميين خاصة، راودهم استفهام بطر كهذا في لحظة او اخرى وربما لم يتردد بعضهم من توظيفه في حماساته او سجالاته الايديولوجية والذاتية وغيرها. بيد ان ذلك التوظيف ظل خجولا وعابرا دائما.
اما المقارنة بالمعنى الفعلي للكلمة فلا احد حسب علمنا، من الجيل التموزي نفسه، الاربعيني – الخمسيني – الستيني اذا جاز القول، وجد ما يشجعه على خوض مغامرة اجابة على استفهام كهذا برغم مرور اكثـر من نصف قرن من الزمن على احداث تموز ١٩٥٨العراق تلك، وهي فترة كافية في احوال اخرى لبلورة تقييمات تجريدية والخوض في مقاربات او مقارنات موضوعية.بالنسبة لي، وانا انتمي الى جيل تفتح وعيه السياسي على اخفاقات ثورة تموز تحديدا، وعلى مشهد الطائرات البعثية وهي تدك مأوى زعيم نصف الثورة/ نصف الانقلاب تلك، كان البحث عن علاقة، أي علاقة بين الحدثين الفرنسي والعراقي حاضرا كمحض اغراء في البداية وكان سيبقى كذلك لولا حسن حظ، والهجرة حسن حظ غالبا، تمثل في اقامة تقترب من ثلث قرن في عالم ١٤ تموز الفرنسية هذه المرة. ففي البلدين، فرنسا والعراق، يظل حدث ١٤ تموز الخاص بكل منهما نقطة استقطاب حميمة لديه ولاسباب تاريخية وشخصية وعابرة في آن، لا مكان للحديث عنها هنا باستثناء التذكير بان الفرنسيين هم ايضا سجاليون ورومانسيون عندما يتحدثون عن ١٤ تموزهم التي لا تقارن لديهم بشيء ناهيك عن ١٤ تموز العراقية التي يجهلونها عن بكرة ابيها. بيد ان مقارنتي بين الحدثين التي ولدت بشكل عابر في البدء سرعان ما تكشفت عن كونها مهمة وعرة بحد ذاتها تزداد عسرا وتعقدا كلما تقدمت خطوة جديدة في حفرياتها الى درجة لم يعد من خيار لدي سوى الزعم بانها قاصرة بكل معنى الكلمة، وتاليا - ولانها مثيرة للمشاكل حتما، خاصة وان العسكري في السلطة لدينا لم يعترف بعد، وبعضه لن يعترف ابدا، بالكارثة التي الحقها بمجتمع بلاده المدني منذ انقلاب 1952 في مصر الذي اوهم زمرة من "ضباط احرار" ما بأنهم "المنقذ"- لا بد لمهمة كهذه من مؤرخ (او مؤرخين) اكثر شبابا وعلما وجرأة وتجريدا ليستطيع فعلا افتضاض اسرارها الكثيرة.المقارنة اذن، وهذا تأسيسنا الوحيد، ممكنة جدا بين الحدثين الفرنسي والعراقي شرط ان يكون المرء نقديا وهذا مزاج فرنسي اصلا لم يعهده العراقيون بعد. ولا يقتصر الامر على القشور والمصادفات والطبائع العارضة، اي لا يقتصر على كونهما ثورتين شعبيتين سواء بسواء وتقدميتين تحرريتين بمعنى او بآخر واطاحتا بملكيتين بائدتين لتقيما بدلهما جمهوريتين حالمتين الى هذا الحد او ذاك، ولكل منهما زعيمها اللامع و"النزيه" ايضا روبسبيير هناك وعبد الكريم قاسم هنا، وحصلتا كلتاهما في اليوم الرابع عشر من نفس الشهر القائض وانهارتا بعد خمس سنوات الواحدة كما الاخرى بعد ان اكلت، كل منهما بطريقتها الخاصة، ابناءها الواحد بعد الاخر وبذات القسوة والبشاعة وحتى النذالة احيانا قبل ان تصبحا مجرد لحظات ماضية، انما خالدة في الحالتين في نظر الجماعة البشرية ذات العلاقة باحداهما او بالاخرى.فهذه المصادفات، كما اشرنا، خارجية ولا قيمة لها لذاتها، بل لا قيمة لها اطلاقا اذا اقتصرنا عليها وحدها. لان الامر يتعلق هنا بتشابهات سطحية مهما كثرت لا سيما ونحن نعتقد بان ١٤ تموز الفرنسية لم تلعب على الاطلاق أي دور او تأثير مهما كان بعيدا او ضئيلا في حصول او حتى وجود فكرة ١٤ تموز العراقية. بل لا نعتقد بان أي من صانعي الثورة العراقية امتلك فكرة ما عن الثورة الفرنسية التي لم يسمع بها، كما تشير دلائل كثيرة، معظم افراد تلك النخبة من الضباط العراقيين الثوار الشجعان بلا شك دون استثناء من شيوعيين وقوميين ويساريين ويمينيين واسلاميين، انما وبلا شك ودون استثناء ايضا نصف المثقفين نصف المدركين لمفهوم المجتمع المدني، ومنهم نصف البدو احيانا ما دام الامر يتعلق بموظفي ثكنات في التحليل الاخير.ولا يغير من ذلك انهم سموا انفسهم بـ"الضباط الاحرار" واطاحوا في ١٩٥٨ بنظام ملكي في عراق خارج لتوه من غياهب اربعة قرون من السحق تحت اقدام أسخم امبراطورية في تاريخه، وخارج لتوه ايضا من محنة اربعة عقود من بشاعات الاستعمار البريطاني الخبيث حتى عندما لم يكن يقصد ذلك، أي بطبيعته، ومن نظام ملكي تابع وبرلماني دستوري زائف نجمه الاعلى عسكري فظ، هو نوري السعيد، الذي طبق مرة، في ١٩٤٨، فكرة المساواة الديمقراطية بإعدام اربعة معارضين يساريين في نفس اليوم احدهما شيعي (حسين الشبيبي) والآخر سني (زكي بسيم) والثالث مسيحي (يوسف سلمان) والرابع يهودي (يهودا صديق)، ثم علق جثثهم على اعمدة الكهرباء في الأحياء السكنية لطوائفهم الرئيسية كما كاد يلحقهم بخامس صابئي، مالك سيف، لولا انتقاله للعمل كعريف مخابرات لأنقاذ رأسه قبل ان ينتقل
بين ثورتي 14 تموز..فرنسية وعراقية هل من مقارنة؟
نشر في: 11 يوليو, 2010: 04:49 م