يرى أن كتب السيرة تعطي القارئ تجربة مكثفة وخبرة على صعيد الحياة والقراءة والابداع
حاوره علاء المفرجي
شاكر الأنباري كاتب روائي عراقي، أسمه الكامل شاكر حسين حميد ولد في عام 1957 في الرمادي مركز محافظة الأنبار العراقية، أمضى طفولته في مدينة النجف.
حاصل على شهادة البكلوريوس في الهندسة المدنية من جامعة السليمانية العراقية عام 1979، كتب في صحف عربية وعراقية عديدة، غادر العراق عام 1982 حاملاً مخطوطات رواياته، ولم تصدر الأولى منها "شجرة العائلة" إلا في عام 1994في دمشق وهي منطقة منفاه الأولى، لتتوالى بعدها: "ليالي الكاكا"، "الكلمات الساحرات"، "بلاد سعيدة"، "الراقصة"، "نجمة البتاوين". وروايات أخرى في سورية والدنمارك ولبنان وإنكلترا والبرازيل والعراق، واستقر أخيراً في كوبنهاغن عاصمة مملكة الدانمارك وهومقيم فيها حاليا. دمر صاروخ أمريكي منزل أسرته تماما وقتل معه أحد عشر شخصا، وأصاب نحو ثلاثين آخرين، وفقد شاكر الانباري، والده الشيخ حسين حميد الانباري ووالدته واثنين من إخوانه واثنين من أبنائهم وعددا من أبناء أعمامه وأقربائه. عاد إلى العراق عام 2003 قبل أن يعود مرة أخرى عام 2007 إلى الدنمارك.
عمل سكرتير تحرير في دار المدى في 1996 /دمشق، كما عمل في جريدة المدى / بغداد، ومسؤولا للقسم الثقافي في جريدة الصباح العراقية/ 2004، ومسؤولا للقسم الثقافي في جريدة الصباح الجديد العراقية عام 2005. كتب في جريدة الحياة/ السفير/ المدى/ الصباح/ المستقبل اللبنانية/ موقع المدن، وغيرها من الصحف. تنوع نتاجه الأدبي بين التأليف والترجمة وكتابة القصص والروايات.
حدثنا عن مكان النشأة الأولى وأبعاده الاجتماعية والنفسية؟ وما المصادر والمراجع في الطفولة التي دفعتك لاختيار الكتابة؟
- ولدت ونشأت في قرية عراقية تقع على نهر الفرات قرب مدينة الرمادي، أي في بيئة فلاحية أقرب إلى البداوة، كونها محاطة بالصحراء من جهة الشمال، والفرات من الجنوب. ويمتهن الجميع تقريبا حرفة الزراعة، وتمتلك خزينا هائلا من القصص والأساطير والخرافات. وتقضي لياليها عادة بالكلام، عن أخبار القرية والقرى المجاورة، ونادرا ما تهتم بالسياسة. وليالي السهر تلك، من دون كهرباء، تنصرم ببطء على وقع رواية القصص والحكايات. ويلعب فيها الخيال والمبالغات والقفز على الزمن دورا هائلا، ومن هنا جاء اهتمامي بفن السرد. منذ حداثتي اعتدت على قراءة ألف ليلة وليلة، وغزوات الأمام علي، وتغريبة بني هلال، وقصص عنترة بن شداد، ثم أخذتني تلك القصص إلى محمد عبد الحليم عبد الله والمنفلوطي وجبران خليل جبران وذو النون أيوب والكتّاب العراقيين، وهي كما أراها اليوم هروب من واقع القرية الجاف، والكئيب، ونافذة للاطلاع على مجتمعات أخرى، وقصص حب، ومغامرات، وقصائد شعر. ذلك الولد القادم من قرية عتيقة، ومن شوارع مغبرة، سرعان ما وجد نفسه في دهاليز هذا العالم المكتنز بالتناقضات، والظلال، والمدن الباهرة. المكتبة الصغيرة التي أسستها في البيت دفنتها في الحديقة عندما شنت السلطة، آنذاك، هجمتها على الفكر التقدمي، نهاية السبعينيات. وما زالت مدفونة هناك بورقها وكلماتها وأفكارها. أتذكر مشهد الدفن دائما.
غادرت باكرا العراق لأسباب سياسية، هل كان الأدب بشكل خاص الدافع الذي جعلك تخوض هذه التجربة؟
- ليست السياسة فقط هي ما دفعني لمغادرة البلد، إنما هي ظروف مركبة ومعقدة. كنت ببساطة ضد الحرب ولم أفكر بالموت لأجلها. الجو العام في تلك السنوات مشحون بالتعبئة والكذب والاضطهاد لأي صوت معارض، وكان جوا اجتماعيا خانقا، جوا بوليسيا تهبّ منه رائحة الموت في الجبهات والسجون والشوارع. مع توق خاف لاقتحام المغامرة والبحث عن الفردوس المفقود. نساء وخمور ومدن وبحار وسفن تقلع من ميناء إلى آخر. كل ذلك دفعني لمغادرة ذلك التابوت، والنجاة بعقلي وجسدي. خرجت إلى فضاء آخر استعدت فيه روحي التائقة للحرية، والثقافة النظيفة، والتعبير عن الرأي. وفي ذلك الفضاء الحر، في جبال كردستان وسورية والدانمارك أحسست أن العالم أصبح تحت أصابعي من جهة القراءة، والسفر، وتعلم لغات أخرى، والاسترخاء الروحي، ثم التفرغ لمهنة الكتابة. لست نادما على تجربتي الحياتية، مع ما فيها من أثمان باهظة، لكنها تجربة تستحق الخسائر، وكانت مثمرة ابداعيا.
بلاد الشام هي أولى المحطات التي استقررت بها بعد مغادرتك بغداد بداية الثمانينيات، وقد مارس هذا المكان تأثيره عليك في كل شيء، ابتداء من تفاصيل حياتك اليومية، وليس انتهاء بالتأثير في عملك الروائي. ما تعليقك؟
- لقد أضافت لي تجربة العيش في سورية أبعادا ثقافية أثرت نتاجي الابداعي، خاصة بعد أن عدت إليها من الدانمارك بعد عشر سنوات من مغادرتي إياها في العام 1985، وعملت في دار المدى. عبر تلك الفترة استطعت التواصل مع المثقفين السوريين، واللبنانيين، وإلى حد ما المثقفين العرب، وكان عملي في مجلة المدى، ومجلة النهج، ثم في نشر كتب الدار، له الدور الكبير في الاطلال على الجو الثقافي والفكري بشكل عام. قرأت، وكتبت، وحاورت، وهذا ما لم يكن سهلا في بلدان الاغتراب. كما استطعت المقارنة بين بيئتين هما البيئة الأوربية، وعشت فيها عشر سنوات، والبيئة الشرقية، مما وسع من مداركي الحضارية، مدارك شخص خبر، إلى حد ما، بيئة الغرب وبيئة الشرق. ووفرت لي تلك الفترة الدمشقية فرصة ممارسة الصحافة الأدبية، والتواصل مع مختلف الصحف العربية، والاحتكاك مع الواقع اليومي للإنسان العربي في الأسواق، والمقاهي، والمعارض التشكيلية، والندوات. حتى المكان بدا لعينيّ مختلفا، مما دفعني لكتابة نصوص سردية متعاشقة مع جماليات المقرنصات، والشبابيك المزخرفة، والأقواس، والقباب، والزخارف. سميت الكتاب "تشكيل شامي"، وقد أفسحت مساحة فيه لقراءة اللوحات التشكيلية. وكل ذلك شكّل لي قفزة إضافية في مجال الثقافة عموما، وكتبت عنه رواية تتناول الحياة الدمشقية عبر أشخاص يعيشون التفاصيل اليومية، وإيقاع المدينة الليلي، والنهارات القادمة من الغوطة وجبال قاسيون ونهر بردى، بعيني غريب يعيش في مدينة يحبها. تلك هي رواية "الراقصة" التي صدرت عن دار المدى في العام 2003، وتحولت إلى مسلسل سوري باسم "شارع شيكاغو».
أرى أن روايتيك (نجمة البتاويين، ومسامرات جسر بزيبز) هما الأكثر تعبيرا عن المأساة التي عاشها شعبنا ووطننا خلال فترة تاريخية معينة.. حدثنا عن هاتين الروايتين؟
- المفارقة أن الأحداث في الروايتين يفصل بينهما ما يقرب العقد من السنين. تناولت "نجمة البتاويين" الحياة البغدادية أثناء فترة الاحتلال الأميركي، وسقوط النظام السابق، وانفلاش المجتمع، وقلق البشر في واقع لم يعد مفهوما. ونقلت الرواية هموم شخصيات تعيش ذلك القلق، بل الرعب المستولي على شوارع العاصمة وقد استبيحت من العصابات، وجيش الاحتلال، والميليشيات، والفاسدين، وكاد أن يختفي ضوء الأمل، في سنوات لن تتكرر، ربما، على مدى قرون. كان الرهان مع نفسي هو كيفية اقتناص الواقع اليومي في رواية، دون السقوط في المباشرة، والتسجيل السطحي للأحداث. أما رواية "مسامرات جسر بزيبز" فهي تروي هجوم التطرف والارهاب والتكفير على المدن العراقية، والهجرات المليونية لقاطني تلك المدن، وضياع الذاكرة الجمعية لشعب غادر الراحة والسعادة، والأمل بمستقبل واعد. وكل ذلك بدا محاولة لتسجيل تلك اللحظات السوريالية في حياة الشعب العراقي. وكلا الروايتين مناورة فنية تتخذ السرد الحكائي أداة لها لاستقراء الحس الشعبي بالأحداث، وتسجيل لمحات من التشوهات الروحية داخل الشخصيات، والزوال المستمر للأمكنة، والتقاليد، والأفكار. نحت جو سردي أكثر من تصنيع شخصيات عامة هو ما دفعني لإنجاز هذين العملين، وفيهما أصداء عالية من التجربة الشخصية.
اخترت الرواية مجالا لانشغالاتك. هل ترى أن الرواية، وبشكل خاص، قد أزاحت الشعر عن عرشه.. أم أنك ضد هذا الرأي؟
- الشعر بشكل عام تعبير فردي عن الوجود في النهاية، وهو محكوم بالصورة والخيال والمفارقة والرؤية الفلسفية، وله في تراثنا العربي أساسات صلدة ومدارس وأغراض تغوص في عمق القرون. أما الرواية فلصيقة بالواقع والتحولات المفصلية في حياة شعب من الشعوب، وتقدم إيقاعات جماعية عن مرحلة من المراحل الزمنية في بقعة مكانية ذات ملامح واضحة. وهي مصنع للأفكار، والتحليلات، والشطحات الفلسفية، والمعرفية، والحوارات الحرة بين أشخاص يفترض أنهم يمتلكون تقييمات متباينة للأحداث. وأعتقد أن ما تمر به مجتمعاتنا من خضّات سياسية وفكرية وهجرات جماعية وانفجارات في النسيج الاجتماعي ومآس غريبة، يناسبها التعبير عن كل ما سبق بالرواية، فقد أصبحت اللسان الجمعي، والمرآة الشاسعة، مكانيا وزمانيا، عما جرى ويجري من كوارث في العقود الأخيرة. لا على صعيد العراق فقط، بل في معظم البلدان العربية. الشعر حقل محروث منذ آلاف السنين، بينما الرواية أرض جديدة على الذائقة المحلية. والرواية مؤشر على خروج الذهنية العربية من شرنقة الخرافة، والعقل الأسطوري إلى جحيم الواقع، بعد أن هجرت اللغة الجديدة مساحات الانشاء والضبابية والمراوغة. أصبحت لغة الرواية محددة، قاطعة، منحازة بشدة إلى الفكرة الواضحة والموقف الانساني مما يجري. تنسج خيوطا متينة مع ثقافة العالم عبر الترجمة، وتهضم كل ما وصلته العلوم الحديثة والابتكارات العلمية والاجتماعية. غادرت الرمز والضبابية والمطّ اللغوي والتقعر اللفظي، وفي النهاية جاءت الرواية لتكون قطيعة مع إرث الماضي بكل منظوماته، جماليا وبنائيا، وقداسة، وركودا، عكس الشعر.
كتاب "مثل برقٍ خبا": وهو سيرة ثقافية تناولت مختلف شؤون حياتك، هل تجد أن سيرة الروائيين تتضمن درسا للمتلقي أحيانا؟
- كتب السيرة سواء كانت سياسية، أو فكرية، أو أدبية، تعطي القارئ تجربة مكثفة وخبرة على صعيد الحياة والقراءة والابداع. وهي إطلالة صادقة، كما يفترض، على الخلفية الثقافية والمكونات الأساسية لكاتب السيرة، تضيء الكثير بالتأكيد منتجه في فن من الفنون، أو في حقل من حقول الممارسة الواعية. كتب السيرة أشبه بالاعترافات المكتوبة على الورق. وجاء كتابي "مثل برق خبا" ليزوّد القارئ المهتم برواياتي، وقصصي، وتكويني الأدبي، بملخص عن الحياة التي انتجت تلك النصوص، والقراءات ذات الصلة بممارسة الكتابة، ونمط التجارب الحياتية. وهي كلها تساهم في إضاءة المساحة التي تحرك الكاتب ضمنها. والسيرة في الوقت ذاته شهادة على فترة زمنية بعينها، ورؤية وجودية تعكس قناعات ومواقف الكاتب، فضلا عن تطوره الفني، والفكري، والفلسفي. كل تجربة فنية ناضجة هي تجربة متفردة، والزمن هو الذي يحكم على صدق الشهادة أو عدمها. وأنصح كل مبدع بتدوين سيرته الذاتية، وهي شكل من أشكال التعبير عن الرأي دون وجل. وأعتقد من جانبي، أن هذه السيرة تهمّ الأجيال الجديدة في العراق، وربما العرب، وهي لم تعش تجربة مماثلة، ولن تعيش، لأن التاريخ لا يكرر نفسه. أدب المنفى يعتبر حقلا جديدا على ذائقتنا العربية، بينما أصبح ظاهرة شائعة في العقود الأخيرة بسبب هجرة كثير من المثقفين العرب إلى أوربا وأميركا، نتيجة لظروف العالم العربي التي تتمثل بالفوضى، والحروب، والرفض لما هو مختلف.
ما الذي يمتلكه الكاتب الأميركي "ري برادبري" حتى تخلص إلى ترجمة مختارات من أعماله القصصية، رغم أنك غير مكثر في هذا الجانب، أعني مجال الترجمة.. بمعنى ما الذي جعلك تلجأ إلى برادبري؟
- الخيال العلمي نادر في ثقافتنا العربية، نحن مجتمع غير صناعي، نستهلك الصناعة مثلما نستهلك الأدب والنظريات الفكرية والجمالية، و"ري برادبري" ابتكر عوالم غريبة تدور في فضاء الروح، وفي الفضاء الخارجي، وهو يلغي المسافة بين الواقع والخيال، أو الحلم. من هنا فقد جذبتني قصصه المكتوبة عن هذا الحيز من المغامرة البشرية. تساوقت القصص مع تكويني العلمي ذاته. وهو، أي براد بري خلاصة لمجتمع علمي هو الحضارة الغربية، أو الحضارة العالمية التي ترتكز على العقل، والمنطق، والاكتشافات العلمية في المادة، والكون، والطب، والروح البشرية. وكلها حقول غير شائعة في مجتمعاتنا مع الأسف، كونها مجتمعات ما زالت تؤمن بالخرافات والأساطير والمقدسات العتيقة التي لم تعد تتناسب مع الحضارة المعاصرة. ومن النادر جداً ايجاد جامعة عربية تترجم، أو تشتغل على آخر ما استجد في العلوم النظرية كالفيزياء، والكيمياء، وتكنولوجيا النانو، ونظريات الفضاء، والسبب ببساطة هو تخلف تلك الجامعات سواء في العلوم النظرية أو التطبيقية. يضاف لذلك هيمنة الوضع السياسي المرتبك، والمتفجر، في دول عربية كثيرة على الواقع العلمي للجامعات.
انتفاضة تشرين حركت الساكن في المشهد الثقافي العراقي .. ما الذي كانت تعنيه لك؟
- العراقيون بحاجة ماسة لاستعادة الهوية الوطنية، أي تجاوز الهويات الفرعية، دينية وطائفية وقومية. ودون وجود مجتمع مدني، لا ديني، يستحيل بناء تلك الهوية. ومن هذا الجانب وقفت بكل قوة مع المنتفضين وهم يطرحون شعاراتهم التي تتساوق مع حقيقة الهوية الوطنية العراقية. إذ التحم في تلك الانتفاضة معظم شرائح المجتمع، بهذا الشكل أو ذاك. وكان للشباب الحصة الأكبر في تلك الاحتجاجات والمطالب، وخاصة المرأة. فمن دون تثوير المرأة ومشاركتها في تأسيس مجتمع مدني يفسح المجال لحرية التعبير، وحرية الاختيار، والأمن للأسرة والطفل، لا يمكن لأية انتفاضة أن تنجح. وهو درس على المنتفضين التمسك به دائما. كما أن الابتعاد عن أية شعارات دينية، ومذهبية، وقومية، يقرب العراقيين من تحقيق أحلامهم. نالت تشرين تأييد غالبية المتعلمين والمثقفين إلا القلة المعتاشة على فضائح السلطة، وفتاتها، ومنافعها. والثقافة العراقية الجادة، والمبدعة، لا يمكن لها أن تكون خندقا لرؤية طائفية أو قومية متعصبة. لطالما اصطفت مع هموم الشعب منذ انبثاق الدولة العراقية. وهي ثقافة انسانية لها مشتركات مع عموم البشر على هذا الكوكب. وأي رؤية تنبو عن ثقافة التشرينيين، ومطالبهم المشروعة، ستقف عارية أمام الجميع، وستكون مرفوضة داخل المجتمع وليست جديرة بالاحترام.
أصدرت رواية جديدة هذا العام بعنوان "نشيدنا الحزين" كيف يمكن تلخيصها للقارئ؟
- صدمة الثقافة، الاغتراب في بيئة جديدة، الحنين إلى الوطن رغم قساوة الحروب والقمع وظروف العيش. البحث عن هوية جديدة، ثم الاندماج مع الغرب. طرق الهروب من الوطن، وتحولات البشر أثناء الكوارث، والحروب، والفتن. هذا كله عاشه أشخاص متباينو العقول والعواطف والرؤى، تناولتهم الرواية عبر يومياتهم، وقصص حبهم، ومعاركهم الفكرية والنفسية. أشخاص عراقيون عاشوا في أوربا عشرات السنين ونسيهم البلد، ثم تحولوا إلى حكايات متواترة ينبغي تدوينها، وسردها قبل أن تختفي. شخصيات ظلت تجلس معي عبر الزمن، أو تبتسم لي حتى في المنام، أو توشوش في أذنيّ ثلاث سنين طباقا. شخصيات بعضها عراقي وبعضها دانماركي وبعضها سوري، دوّنت ثرثراتها، وموبقاتها، وأوهامها في ليل صيفي، أو تحت وابل الثلج وصياح النوارس. وعشت مع بعضها عذاب السفينة المتأرجحة وهي تعبر بحر الشمال نحو بريطانيا، أو مشيت مع البعض الآخر في دروب جبال كردستان، أو زقاق "كوجه مروي" الطهراني، أو تأملتها في مقهى البرازيل الدمشقي مع كمال الشاعر وهو يجلس مستمعا لرزان تروي حكاية صديقتها دارين الحمصية، أو عند نهر خريسان البعقوبي وحاناته المعتمة أيام الحرب العراقية الإيرانية. لقد اجتمعت الحروف في تلك الشاشة وتكونت كلماتها، وجملها، وأفكارها، بعد أن نقشتها أصابعي ليلة بعد أخرى، ونهارا بعد ثان، حتى اكتملت وانغلقت حوادثها. هي جزء مهم من تاريخ العراق المعاصر في الخمسين سنة الأخيرة. شخصيات بعيدة لكنها تفصيل بعيد ضمن الذاكرة الجمعية. تلك هي روايتي التي أصدرتها مؤخرا باسم "نشيدنا الحزين"»
ما الذي تراه في المشهد الروائي العراقي الآن؟
- في البدء ينبغي التأكيد على حقيقة أن ليس هناك معايير ثابتة في كتابة الرواية، وفي حالة النشر وسهولته في العراق، نجد تنوعا كبيرا في الأساليب الفنية، تكاد أن تتحول إلى فوضى عارمة، يغيب عنها النقد الجاد والمسؤول، مع تجاهل واضح من قبل المؤسسات الأكاديمية في مناقشة ظاهرة الانفجار الروائي. شاهدنا اليوم موجة روائية عارمة، بأساليب ومضامين هائلة التنوع. حملت معها ما يرزح تحته الفرد، أو الشخصية المتخيلة، من تأثيرات الحروب والنزاعات الأهلية والأزمات الاجتماعية من تنافر ديني، ومذهبي، وعنف موجّه مقصود ومبرمج، وهجرات نحو قارات أخرى أكثر هدوءا، وتصورات مغايرة لما تخططه الجهات الحاكمة أو المهيمنة دينيا، وسياسيا، وثقافيا. لكن ما زالت الرواية العراقية نخبوية قليلا، ولم تشكل مصدرا معرفيا للذائقة الشعبية. طبعا لا يمكن تحميل هذا القصور للرواية فقط، بل للظروف القاسية التي عزلت، أو كادت، المجتمع عن الثقافة بشكل عام. وربما ينطبق الأمر على معظم الفنون الكتابية، والبصرية، والفكرية. فالنخبة الحاكمة لا تكترث للثقافة، كون الثقافة معولا لإزاحتها عن التحكم في الثروة، والسلاح، والاعلام. هناك وفرة في دور النشر والاصدارات الجديدة والكتابات الشابة تظهر كل يوم، يختلط الضعيف بالناجح فنيا، الساذج مع المحترف، وذلك يتطلب حركة نقدية فاعلة للتمييز بين الرواية الناجحة والرواية التي تفتقر للحرفة وسعة الأفق. حرية النشر النسبية صنعت الجناح لطيران الرواية العراقية في العشرين سنة الأخيرة، والزمن سيكون أصدق النقاد لغربلة هذا الكم الهائل من الابداع.