ستار كاووش
لا يمكن وصف المعرض الذي يقام هذه الأيام للفنان فيرمير (١٦٣٥-١٦٧٥) في متحف رايكس بمدينة أمستردام، سوى إنه أعظم معرض يقام الآن في كل المعمورة، وذلك للمكانة الأسطورية لهذا الرسام، والإبداع الإستثنائي والحضور الأخاذ للوحاته التي تجاوزت القرون دون أن تخفت أهميتها ومكانتها. حيث يصف المعنيين ومدراء المتاحف ومؤرخي الفن، هذا المعرض كونه لا يمكن أن يتحقق سوى مرة واحدة كل مائة سنة. فما هو سر معرض فيرمير، ولِمَ كل هذه الأهمية وهذا الإهتمام الذي تعدى الوصف؟
ثمانية وعشرين لوحة فقط هي كل محتويات المعرض، لكنها كافية لتحريك المناخ الفني وجعل عشاق الفن يتكدسون أمام بوابة متحف رايكس في أمستردام لرؤية روائع فنان عصر الباروك يوهانس فيرمير. وهذه اللوحات التي تبدو قليلة في عددها، قد جمعت من بلدان عديدة مثل أمريكا وفرنسا وألمانيا وإيرلندا وغيرها الكثير، لتُعرض مجتمعة في معرض فريد، وهي لم تجتمع سوية أبداً خلال أربعة قرون من الزمن، حتى فيرمير نفسه لم يشاهدها مجتمعة في مكان واحد. وقد عمل المتحف ثمان سنوات متواصلة كي يحقق هذا المعرض وهذا الحلم الفني الذي ينتظره الجميع سواء في هولندا أو خارجها. وقام المتحف بالعديد من الإتصالات بالكثير من المتاحف خارج هولندا، ووفر ضمانات لا حدود لها وأوجدَ الحلول للكثير من المعوقات، ليصبح هذا الحدث حقيقة.
لكن المشكلة الكبيرة كانت في امكانية المتحف بالسيطرة على الأعداد الغفيرة التي تريد مشاهدة لوحات هذا الرسام العبقري. كيف ستُباع البطاقات وما هو العدد الذي يكفي للفترة الزمنية المقررة للعرض؟ فقد نفدت بضع ملايين من البطاقات خلال أيام قليلة، ومن المتوقع أن يصل عدد الزائرين في النهاية الى عشرة ملايين زائر، وهذا العدد هو أكثر من نصف عدد سكان هولندا (نفوس هولندا سبعة عشر مليون نسمة)، وسيكون هذا رقماً قياسياً غير مسبوقاً في حضور المعارض، ونجاحاً للثقافة وإعترافاً بقيمة الفن الحقيقي الذي لا يصدأ مهما كثرت تقليعات الفن ومهما إستسهل الكثيرون عرض أعمال ساذجة بإسم الحداثة. وقد بادرَ المتحف بزيادة عدد الساعات التي يفتح فيها أبوابه للزائرين، وصار بإمكان محبي فن فيرمير أن يزوروا المعرض حتى الساعة الحادية عشرة مساءً، وهذه خطوة نادرة بالنسبة للمتاحف التي عادة ما تكون أوقات افتتاحها محددة.
في هولندا يشعر الناس بفرح عظيم، لأن لوحات فيرمير قد عادت أخيراً الى موطنها الأصلي، عادت بعد بضعة قرون من الزمن الى الأرض التي رُسمت فيها، وهذا وحده كفيل بالاحتفال والفرح الغامر بهذه المناسبة الثقافية والتاريخية. هكذا تحتفل هولندا الآن بفيرمير، الذي لم يرسم خلال حياته القصيرة، سوى سبعة وثلاثين لوحة فقط، وكلها تقريباً صغيرة الحجوم، لذا أصبحت أعماله نادرة كإنها جواهر تتوزع على الكثير من المتاحف العالمية التي تعتز وتفخر بها.
ما يميز لوحات فيرمير هو إنها هائة ومريحة للعين، حيث يوزع شخصياته في غرف هولندية تقليدية إفترشت في زواياها وعلى طاولاتها أقمشة المخمل، كذلك إهتم برسم فلاحات بوجوه مشعة بحمرة الريف، وهن منشغلات بسكب الحليب، في حين يتسلل الضوء ناعماً من النوافد. أو حتى نساء ثريات منشغلات بقراءة رسائل سرية من عشاق مجهولين. وأيضاً واجهات بيوت القرن السادس عشر بمدينة ديليفت التي ولد فيها الفنان وقضى كل حياته، كذلك إهتم فيرمير برسم الزوجات اللواتي ينتظرن أخباراً سارة من أزواجهن البحاره البعيدين الذين غابت أخبارهم خلف البحار المفتوحة على الأفق. في لوحات هذا الفنان يتحول الضوء الى لون، فيما يصير اللون ضوءً، وهكذا تتبادل الأدوار بين ضوء مدينة ديليفت، وألوان هذا الفنان الفريد الذي إختلف عن كل معاصرية أمثال ريمبرانت وفرانس هالس ويان ستين، ولم ينشغل فقط بالألوان البنية القاتمة التي إشتهروا بها، بل جعلَ لوحاته حفلة هولندية يتراقص فيها ويتناغم أزرق الكوبالت مع الأصفر، فيما ينسجم الأخضر والأحمر بطريقة لا يفعلها سوى فيرمير.