اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > تأخرت عن تناول الشاي في قصر الغزال لتمارا الجلبي:قراءة أنثروبولوجية لزمن لم يعد موجوداً

تأخرت عن تناول الشاي في قصر الغزال لتمارا الجلبي:قراءة أنثروبولوجية لزمن لم يعد موجوداً

نشر في: 13 مايو, 2023: 11:42 م

د. شهد الراوي

في نسيج الوجود البشري المعقد، هناك القليل من الخيوط التي تأتي مشوقة كما هي القصص التي ننسجها عن تاريخ عائلاتنا.

من خلال هذه القصص، تمر البانوراما الشاسعة للثقافة، والتدفق الحي للتاريخ، والجوهر المثير للروح في التجربة الإنسانية. هذا ما يمكن تلمسه بوضوح في كتاب "تأخرت عن تناول الشاي في قصر الغزال: الأحلام الضائعة لعائلتي العراقية"، حيث تكشف تمارا الجلبي ببراعة عن قصة عائلتها التي تمتد لخمسة أجيال، في رحلة ثرية وجذابة، خاصة إذا تمت قراءة هذا الكتاب، الذي يتناول تاريخ وثقافة العراق في العهد الملكي، من منظور أنثروبولوجي.

يستند سرد الجلبي الثاقب إلى تجربتها الخاصة، حيث ولدت خارج بلدها، ونشأت في عائلة منفية تعد إحدى أبرز العائلات في العراق الملكي، لذلك هي تحاول إعادة فهم المكان الذي تنتسب إليه ولم تعيش فيه. فبالإضافة إلى بحثها في التاريخ الاجتماعي، والثقافي، والسياسي الأوسع للعراق، تتوقف عند طقوس الزفاف والمراسم والاحتفالات الاجتماعية والدينية، وتلاحظ بفطنة كيف تتدخل الأحداث المفصلية في التكوين الطبقي للعائلات والشبكات الاجتماعية. لتقدم صورة حميمة عن البلد الذي حجبته اضطرابات الجغرافيا السياسية، والصراعات الداخلية، والفوضى الضرورية التي تستدعيها عملية تأسيس دولة حديثة.

من ناحيتي، كنت أتمنى حقاً لو أن هذا الكتاب تخلص من بعض حمولاته التقريرية والأرشيفية، وجاء على شكل عمل روائي صرف. فالمؤلفة، في هذا الكتاب، تكشف عن موهبة سردية نادرة وخيال جامح في كثير من الأحيان، بثقافة رفيعة، وحنين غير ملفق نحو عالم الأجداد الراحلين.

لذا، لا أرغب بالتوقف عند وجهات نظرها السياسية، وآراءها الشخصية بخصوص الأفراد الفاعلين، الذين أثروا وتأثروا بظروف تشكل الدولة وسيرورتها المتعثرة، فمثل هذه الأمور تحكمها المشاعر والانحيازيات العائلية الطبيعية لدي الإنسان. مهتمي هي أن أتفحص بعض الأبعاد الأنثروبولوجيّة في الكتاب، وأن أتعمق، بعض الشيء، في الثروات الثقافية المتضمنة في صفحاته. ف"رواية" الجلبي هي كنز دفين من البصيرة في عادات وطقوس نخبة المجتمع العراقي، التي توفر نافذة على عالم غريب ومألوف في آن واحد.

مراسم الزواج وتنظيم القرابة.

أحد الجوانب الأكثر لفتًا للانتباه في الكتاب هو تصوير المؤلفة الحي لمراسم الزواج، والتي تعد بمثابة وصية حية على القوة الدائمة للتقاليد البغدادية. فمن خلال عدسة تجارب عائلتها، تأخذ تمارا القارئ في رحلة من خلال حكاية الخطوبة والتفاوض بشأنها والاحتفال لزواج جدها عبد الهادي الجلبي من جدتها "بيبي" المرأة لقوية ذات الحس المدني المبكر، لتكشف عن تخلق الروابط الاجتماعية داخل نظام قرابة، عبر المراسم المصاحبة لإتمام صفقة الزواج، بداية من الهدايا والهبات التي تسبق الخطوبة حتى ليلة الزفاف: "قبل يوم المهر، الاحتفال الديني الرسمي الذي أقيم في يوم مختلف عن حفل الزفاف نفسه، حمل الخدم زنابيل ضخمة من منزل عبد الحسين "الجد الرابع للمؤلفة" إلى رومية "جدة والد المؤلفة". تم ملء السلال الضخمة إلى الحافة باللوز المحلى والفستق والتمر وهلام الفاكهة و"من السما" (طعام محلي شهي مصنوع من لحاء الأشجار المسلوق، ممزوج بالمكسرات ومغطاة ببودرة السكر) كانت كل سلة من هذه السلال كبيرة جدا لدرجة أنها تطلبت رجلين لرفعها. بالإضافة إلى ذلك، أرسلت عائلة الجلبي عدة صواني من البورك المحلى (صفائح رقيقة من المعجنات محشوة باللوز) كما تلقت رومية (أم العروس) الهدايا الصغيرة من الحلوى التي كان من المقرر توزيعها بعد المهر على الرجال". تنتمي هذه الهدايا إلى نظام (الواجب) كما هو تعريف علماء الأنثروبولوجيا، إذ أنها تخضع لالتزام غير مصرح به بين أطراف العلاقة، يتعين رده في مناسبة مماثلة لاحقة داخل النسق التبادلي، الذي يفلت جزئياً من المصلحة الخالصة كما يقول ليفي شتراوس.

تقدم الجلبي أوصافًا غنية لمختلف الطقوس والاحتفالات التي كانت جزءًا من المجتمع البغدادي: "في الأعراس، كانت النساء يجتمعن في غرفة الزفاف لتحضير العروس للحفل، ويضعن الحناء على يديها وقدميها، ويزيننها بالمجوهرات. وفي غضون ذلك، كان الرجال يجتمعون في غرفة منفصلة لتدخين السجائر وشرب القهوة. في وقت لاحق، سوف يأتلفون جميعًا من أجل الوليمة الفخمة والرقص ". من خلال وصفها لهذه العادات والاحتفالات، سلطت الضوء على أهمية الشبكات الأسرية والاجتماعية داخل المجتمع البغدادي النخبوي، وكيف تم التعبير عنها من خلال هذه جملة المراسم المصاحبة. فممارسات الزواج وطقوسه تعد مجالًا مهمًا آخر للقراءة الأنثروبولوجية، لأنها تتعلق برمزيات الخطوبة التي تم استخدامها لترتيب الزيجات، بالإضافة إلى العوامل الطبقية والاقتصادية المختلفة التي أثرت في اختيار الشركاء: "غالبًا ما كانت الزيجات تتم من قبل العائلات، وكان الوضع الاجتماعي والثروة عاملين مهمين في اختيار شركاء الزواج. غالباً ما كانت عملية التودد رقصة متقنة يؤديها الطرفان، حيث تتبادل العائلات المعلومات وتتفاوض بشأن شروط الزواج".

لا تنسى الجلبي تسليط الضوء عن الدور الذي تلعبه مؤسسة الزواج في توسيع دائرة العلاقات العائلية وإدراجها في سياق مجتمعي: "كان اتحاد جدتي وجدي بمثابة لقاء لعائلتين بغداديتين تداخلهما الزواج والصداقة والتشارك الاجتماعي. كان حفل زفافهما حدثًا كبيرًا جمع النخبة بأكملها في بغداد، من الأمراء والشيوخ إلى التجار الأثرياء والمسؤولين الحكوميين".

إن تطور شخصية "بيبي" التي مثلت بطلة القصة في هذا الكتاب، تكشف من جانبها عن عمق الحياة الثرية للمجتمع البغدادي وسيرورته نحو الانفتاح على حياة مدنية، تمثلت من خلال سلوك المدني الأقل تزمتاً، حيث عاشت حياة مختلفة عن التقييدات الاجتماعية التي عاشتها الأم (رومية) وجيلها. صار بإمكانها الذهاب إلى الحفلات الموسيقية (بتأثير من العم الذي أنهى دراسته في بريطانيا) وبهذا التطور تتكشف أمامنا الظروف الثقافية المتحولة على صعيد الملبس، والمطبخ، والعادات، ونمط العيش، وطرق التعبير عن الهوية، وإن كان ذلك لا يمثل المجتمع الكبير الذي لم يزل غارقاً في الأمية والتخلف والجهل، لكن الدرس الأنثروبولوجي يعلمنا أن التأثيرات الثقافية غالباً ما تجترحها النخب أولاً، ثم تنزل تدريجياً إلى طبقات المجتمع، حيث تمثل الأرستقراطيات، في معظم المجتمعات، النموذج الحضاري لبقية طبقات المجتمع، التي تتخذها مثالاً لأسلوب الحياة الحديثة.

الضيافة والطهو: هوية المطبخ

في سياق مماثل، تستكشف المؤلفة الطقوس والممارسات الآسرة التي تحدد ثقافة المطبخ البغدادية، مثل احتفالات الشاي المتقنة، والتي ترمز إلى الضيافة والدفء، وتراث الطهي الغني الذي ينسج معاً نكهات الشرق والغرب. في استذكارات الجلبي، ارتقت هذه الجوانب التي تبدو عادية من الحياة اليومية إلى عالم الأدب، حيث إنها تضفي عليها إحساساً عميقاً بالجمال والمعنى. من أبرز جوانب الكتاب استكشاف الجلبي لهوية المطبخ البغدادي. تصف وجبات الطعام المتقنة التي تم تقديمها في منزل العائلة، والتي تضمنت الأطباق العراقية التقليدية بالإضافة إلى المأكولات العالمية: "على مائدة العشاء، كان هناك دائمًا مجموعة كبيرة من الأطباق - لحم الضأن والأرز وورق العنب المحشو ومرق البامية والخيار وسلطة الزبادي والمزيد. ولكن كانت هناك أيضًا أطباق عالمية مثل اللازانيا والروبيان سكامبي وسلطة سيزر. كانت جدتي طاهية رائعة أحببت تجربة الوصفات والنكهات الجديدة"

من خلال وصفها لتقاليد الطهي، تسلط الجلبي الضوء على الطرق التي استخدم بها الطعام كوسيلة للتواصل الاجتماعي داخل هذا الطبقة. وتشير إلى أهمية الطعام للدلالة على المكانة والهيبة، وكيف تم استخدامها للتعبير عن الرتبة الاجتماعية والإعلان عن الولاء من خلال مستوى الحفاوة. ففي حادثة زيارة الملك فيصل الأول لبيتهم، بعد مجيئه إلى العراق مباشرة "لم يرغب (الجد) عبد الحسين فقط في تقديم القوزي التقليدي (خروف كامل مشوي يقدم على فرشة من أجود أنواع الأرز المتبل) ولكن أيضا الأطباق الأكثر دقة التي اشتهرت بها مدينة الكاظمية: الفسنجون (يخنة الدجاج بالرمان والجوز)، يخنة لحم الضأن في المشمش، تمن باكلا (أرز بنكهة الشبت مع الباقلاء العريضة)، أنواع مختلفة من الكبة، يخنة الخضار، وكرات اللحم المحشوة وبالطبع، الدولمة التقليدية (أوراق العنب المحشوة والبصل والفلفل). كانت قائمة الحلويات مفصلة بالمثل - الزردة والحلاوة والبقلاوة والمحلبي. كان مصمماً على إعطاء الملك أفضل مأدبة في حياته".

بذلك نرى أن مكونات وجبة الطعام تعمل في مجال تواصلي خارج وظيفتها الجوهرية، فهي رسالة حفاوة وولاء وتعبير عن هوية اجتماعية يمثلها المطبخ المحلي عبر الإصرار على تقديم الأطعمة ذات النكهة البغدادية، وقد تكون محاولة مقصود لإدماج الملك الشاب القادم للتو في المجتمع الجديد من خلال ثقافة المطبخ.

الأزياء: تفاعل التقليدي مع الحديث

تمثل الموضة أيضاً لوحة فنية معبرة في " تأخرت عن تناول الشاي في قصر الغزال " حيث تضيء المؤلفة بمهارة الطرق التي تعكس بها الأزياء النسيج المركب للهوية البغدادية ممثلة في نخبها. من الملابس الملونة والمزخرفة للنساء إلى الأناقة البسيطة لملابس الرجال، تجسد التفاعل بين التقاليد والحداثة والفردية التي تميز خيارات الملابس لموضوعاتها. فمن خلال أوصافها للموضة داخل هذه النخبة، نستكشف الطبيعة الديناميكية للهوية الثقافية داخل هذا المجتمع الذي يتشكل ببطء وتردد. ونتعرف على الطرق التي تأثرت بها الموضة بالاتجاهات العالمية والتقاليد المحلية، وكيف تطورت بمرور الوقت استجابةً لتغير الأعراف الاجتماعية والثقافية: "علقت ملابسها الماهرة من جانب خزانتها. كان هناك قفطان مطرز بلون كريمي فاتح سترتديه في الحفل الفعلي، وفستان حريري وردي فاتح، مع تطريز ذهبي ورقبة مستديرة، لتناول طعام الغداء بعد ذلك. على الخزانة المقابلة لسريرها ثمة أمشاط الشعر المعدنية المزخرفة، مع الزهور المطلية بالورنيش، والتي أصرت عليها بيبي... تم وضع حذائها ذو الكعب العالي المصنوع خصيصا على الأرض".

يقدم كتاب الجلبي رؤى ثاقبة في ملابس وأسلوب العائلة، فهي لا تتوقف من خلال فصول الكتاب عن إلقاء نظرتها الفاحصة للفساتين والإكسسوارات المتقنة التي ترتديها النساء في المناسبات الاجتماعية، فضلاً عن البدلات الغربية وربطات العنق التي يرتديها الرجال. على سبيل المثال، كتبت: "كانت النساء يرتدين فساتين جميلة من الحرير والساتان، مزينة بالخرز والتطريز المعقد. كما كن يرتدين مجوهرات متقنة، بما في ذلك العقود والأساور والأقراط. وفي غضون ذلك، كان الرجال يرتدون بدلات على الطراز الغربي وربطات عنق، والتي ينظر إليها كعلامة على الحداثة والتطور ".

الرتبة الاجتماعية: المكانة في الأسرة وخارجها

ومع ذلك، ربما يكون الجانب الأكثر إثارة للمشاعر في الكتاب هو استكشاف التسلسل الهرمي للأسرة، الذي يؤسس ويدفع السرد إلى الأمام. من خلال الخوض في ديناميات العلاقة والتوترات بين الأجيال وترتيبات الجلوس التي تشكل قصة عائلتها: "اتبعت العائلة دائما عن غير قصد نفس نمط الجلوس لهذه الزيارات. جلست جميلة في مكانها المفضل على مرتبة مغطاة بالسجاد مع السماور الفضي الروسي المزخرف إلى جانبها والذي حصلت عليه كهدية من زوجها، كان السماور أحد أثمن ممتلكاتها، وكانت تحب تقديم الشاي منه. بالقرب من السماور كانت هناك سلة كبيرة مليئة بالخبز الطازج من المطبخ ومربى البرتقال محلي الصنع والجبن الأبيض والحليب الطازج من أبقار مزرعة هادي. اتكأ عبد الحسين، في ثوبه، على كرسي السفاري بزاوية في مواجهة (زوجته) جميلة. كانت أخواته الثلاث جالسات مقابله على المرتبة التي يقيمها الخدم كلما اجتمعت العائلة الكبيرة. وعلى الجانب الآخر من جميلة كانت المقاعد التي جلست فيها بيبي مع شقيقة زوجها شمسة، وإلى جانبها هادي.

إن المفتاح الأنثروبولوجي لهذا المقتطع من الكتاب هو كلمة "اتبعت" التي تعلن الاتفاق الضمني على معنى أمكنة الجلوس لدى العائلة، والتي تدل بدورها عن معنى راسخ للحفاظ على المرتبة الاجتماعية داخل الأسرة. ففي معنى (الاتباع) هناك نظام تكرار متفق عليه على مكانة الرجل في العائلة ومكانة الكبير (امرأة كان أم رجلا ً) أمام الأصغر عمراً. وهذا النظام سنصادفه كثيراً في صفحات الكتاب، الذي يدرس الأمكنة وأشغالها من قبل الأفراد، وطريقتهم في فرض وتقديم الاحترام لبعضهم، سواء داخل العائلة أو حتى خارجها. فتنظيم أماكن الجلوس هو تعبير ثقافي عن طبيعة المجتمع في فهم الدور والمكانة التي تمنح لأحدهم. ومن خلال هذا الأدوار يتحدد شكل ترتيب الأثاث وتوزيعها والمسافات التي تحكمها وطبيعة الحركة التي توفرها، كما أنها تفرض بطريقة ما نظام توزيع الغرف والصالات والأماكن المخصصة لكل فرد، وترسم حركته بداخلها. ولو تعمقنا بدراسة خارطة بيت العائلة (قصر الغزال) لوجدنا كيف أنه مصمم استجابة لهذه التراتبية.

الطقوس والمعتقدات: شفاعات ثرية يحملها النهر كرسائل

"شرعت بيبي في كتابة رسائل يومية إلى الإمام (المهدي)، تتوسل إليه لإثبات براءة زوجها وتأمين إطلاق سراحه. طوت رسائلها في مربعات أنيقة، وضعتها على ألواح صغيرة من القصب مع شموع مضاءة لإضاءة طريقها. ثم، عند الشفق، كانت تمشي عبر الحديقة إلى ضفة النهر وتطلق (مركبتها) الصغيرة، متأكدة من أن النهر سيوصل رسائلها إلى صاحب الزمان، كما يسمى، الإمام الثاني عشر، وأنه سيستجيب لصلواتها"

عندما أعتقل عبد الهادي الجلبي، في تهمة كيدية، كما سيتوضح ذلك في الكتاب، لم تركن الزوجة إلى موقع العائلة في الهرم الاجتماعي وثروتها وقربها من النظام الملكي في انتظار إطلاق سراحه، فلابد من تدخل القوى الإيمانية لإنقاذ الموقف. وبذلك مارست طقساً بغدادياً شائعاً عبر توجيه الرسائل إلى الشفعاء المقدسين يحملها جريان نهر دجلة. وهكذا راحت تواصل توسلاتها للإمام صاحب الزمان ليساعدها في محنتها تلك: "فعلت ذلك كل مساء عندما كان هادي في السجن، وصلواتها تطفو جنبا إلى جنب مع (قوارب) القصب الأخرى التي أرسلها الفقراء واليائسون. في كثير من الأحيان في ليلة هادئة، يمكن رؤية العديد من هذه "السفن الهشة" تومض وتطفو على دجلة المضاءة بالقمر، وتحمل مناشدات حماسية للإمام.

إلى جانب إيمانها العميق بإمامها الذي سوف لن يخذلها، عاشت هذه السيدة البغدادية محنة كبيرة في غياب ولدها، فراحت تلقي باللوم على أمور ثانوية حين أخضعت وعيها لكل ما يحتمل التأويل من وقائع تسببت في حادث اعتقال زوجها: "فسرت بيبي كل حدث، كبيرا كان أم صغيراً، من خلال منظور سجن زوجها. سمحت للغيبيات بالتغلب عليها، حتى أنها ألقت باللوم على ما حدث على تلك السيارة الدودج الحمراء اللامعة التي اشتراها هادي مؤخراً؛ كانت هذه السيارة هي التي تم اقتياده بها. في إحدى الليالي قالت لسعيدة (الخادمة): " لقد جلبت لنا تلك السيارة الحمراء الشريرة غير المرغوب بها الطالع السيئ. من هذا اليوم فصاعداً، لن يمتلك أحد في عائلتي سيارة حمراء مرة أخرى! وعلى درايتها بطبيعة بيبي العنيدة، أومأت سعيدة برأسها، واثقة من أن هذا المرسوم سيصمد مع الأجيال القادمة".

مع كل ذلك، وداخل قلقها المتصاعد تجاه غياب عبد الهادي، لم تتخل الزوجة عن ثقتها بأن البشرى سيحملها النهر مرة أخرى، فإمامها سوف لن يخذلها، حتى صدقت توقعاتها وخرج الزوج بريئاً من التهمة الملفقة ضده: "وبينما كانت تنظر إلى النهر عند الغسق في ذلك المساء، همست بيبي بامتنانها للإمام. من الواضح أن صاحب الزمان قد تلقى رسائلها".

في سياق القراءة الأنثروبولوجية، توفر المعتقدات التي لدى الناس فهماً حول طبيعة الواقع، وما هو ما فوق طبيعي، من ناحية أخرى، فإن الطقوس التي يعبر الناس من خلالها عن هذه المعتقدات، هي سلوكيات متكررة متفق عليها، غالبًا ما تنطوي على عناصر وأفعال رمزية. يجري نقلها عبر الأجيال. ومن خلال قراءة المعتقدات والطقوس لدى هذه العائلة البغدادية ومحيطها الاجتماعي، نتعرف على التنوع الهائل للتعبير الثقافي في المجتمع. حيث تلعب المعتقدات والطقوس دورًا مهمًا في تعزيز التماسك الاجتماعي وبناء هوية المجموعة. فهي تساعد على تحديد الحدود بين الفئات الاجتماعية المختلفة والحفاظ على الإحساس بالتاريخ والتقاليد المشتركة. ويمكن أن تلقي قراءة المعتقدات والطقوس الضوء على الجوانب الأساسية للسلوك الإنساني والإدراك، مثل الدور الرمزي، وأهمية الذاكرة الجماعية، والآليات المعرفية التي تكمن وراء التجارب الدينية. وكتاب تمارا الجلبي، المكتوب اساساً باللغة الإنكليزية، يساعد غير العراقيين كثيراً في فهم طبيعة المجتمع العراقي، وتنوعه الاثني، وطرق مكوناته في التعبير عن معتقداتهم وعاداتهم الموروثة، التي تتجلى في المناسبات الاجتماعية، كما نرى ذلك في هذا المشهد المبهر في طقس الاستعداد لليلة العرس: "كانت قدميها في وعاء من الماء، والذي يرمز إلى حياة وفيرة، حيث طفت زهور الياسمين. على جانبي شموعها المحترقة، مزينة بالزهور الصغيرة. وقفت امرأتان من خلفها. كان من المعروف عنهما أنهما تعيشان حياة زوجية سعيدة، وكانت كل منهما تحمل زوجاً من مكعبات السكر الضخمة، التي تفركانها مع بعضهما البعض على قطعة قماش رقيقة من الدانتيل مثبتة فوق رأس بيبي (العروس)، بذلك سيكون زواجها حلواً مثل السكر. كانت أمامها مرآة حتى تتمكن من رؤية نفسها... وكان القرآن مفتوحا في حضنها"

في النهاية، يعد كتاب " تأخرت عن تناول الشاي في قصر الغزال " أكثر من مجرد سيرة ذاتية لعائلة واحدة. إنها قصيدة للروح الدائمة للمجتمع والروابط التي لا تمحى التي تربط الناس بمدنهم. بينما نمضي عبر صفحاته، يتم تذكيرنا بالقوة السحرية لسرد الحكايات والطرق العميقة التي يمكن أن تتشابك بها الأنثروبولوجيا والأدب لإلقاء الضوء على التجربة الإنسانية.

* الكتاب متوفر باللغة الإنكليزية بعنوان

(LATE FOR TEA AT THE DEER PALACE: THE LOST DREAMS OF MY IRAQI FAMILY)

للناشر (HarperCollins) وستقوم دار المدى بنشره قريباً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram