طالب عبد العزيز
لا نجدُ غرابة في موقف أفراد مفرزة شرطة النجدة بمنع فرقة تعزف الموسيقى في شارع الفراهيدي بالبصرة، وإنْ ذهبنا بحسن النوايا على أنَّهُ تصرفٌ شخصيّ، فهو لا يختلف عن قرار وزارة التعليم العالي بمنع إتحاد الطلبة من العمل في الكليات والجامعات العراقية،
لذا، يتوجب علينا الهمس بآذان القوى الوطنية والتنظيمات المهنية والاحزاب والتجمعات الصغيرة التي لا تملك السلاح والمناصب وألا ينخدعوا بديمقراطية احتكار السلطة والسلاح وتجييش العشائر وأن لا يضعوا سلال بيضهم مكشوفاً على رؤوسهم، فالحذر واجب، وليكونوا مؤمنين أكثر من غيرهم، فالتاريخ السياسي العراقي يعيد نفسه.
الفرق بين من يرتدي الاسود ويستقل السيارات شبه الحكومية، التي تحمل أكبر مكبر للصوت، ويطلقها بأعلى ما في صوتها، مبشراً ومنذراً بمناسبته الدينية والحزبية والشخصية أحياناً وفرقة الموسيقى الصغيرة، في شارع الفراهيدي، الصغير والمحدود بسيط جداً، هو أنَّ الاول يملك السلاح والسلطة والثاني لا يملك أيٍّ منهما، فالفعل مباح مطلق للاول، ومحرّم مقموع عند الثاني، وبموجب المعادلة البسيطة هذه تفهم آلية التسلط في العراق، إذْ كل فعل من أفعال الحياة وقوامها عرضة للطرد والنفي، وكل فعل من أفعال الموت والقبر متسيدٌ ومتاحٌ، والحياة متعطلة من وجهة نظر المتسلط المستبد.
على مدى عقدين من الزمن تسنم أكثر من عشرة قائدين للقوات الامنية في البصرة، وكلٌّ يعدُ في حفل تنصيبه بتوسعة الحرية الشخصية ووضع حدٍّ لمظاهر التجييش، والنزاعات المسلحة، واستتباب الامن في المدينة، لكنْ ذلك لم يحدث، ويتحقق إلا بنسبة لا تتجاوز الـ 50% مع قولنا بأنَّ ظاهر الوضع العام في المدينة آمنٌ بنسبة الـ 50% أيضاً، لكنَّ الواقع والمسكوت عنه خلاف ذلك، لأننا لم نرَ قوة أمنية تمكنت من فضِّ نزاع مسلح بين عشيرتين الى اليوم، وما زلنا نسمع لعلعة الرشاشات والبكيسييات بين فترة وأخرى.
ولا يقتصر الامر على البصرة، ابداً، فالقضية عامة في معظم مدن الجنوب، ولن نلوم قائداً أخفقَ في تحقيق أمانيه، ذلك لأنَّ القاعدة التي بنيت عليها الاجهزة الامنية منذ السنوات تلك كانت خاطئة، وتفاقم الخطأ، ومن ثم اعتمدته الحكومات المتعاقبة نهجاً، حين جعلت من وزارتي الداخلية والدفاع مغانم للاحزاب الحاكمة، وركيزة لبقائها، دون مقدرتها على وضع حدٍّ للخراب الذي مازال ينخر جسد البلاد، ويجعل من كل حلم بالتغيير سراباً. أمّا إذا تحدث أحدنا عن بحبوبة الامن التي نعيشها في بيوتنا فهي بفضل توازن القِوى جميعها(أشخاص وبيوت وعشائر وطوائف وأحزاب) ذلك لأنَّهم مسلحون، فالحوار معلّق ومعطّل حين تتوازن القوة بتكافئ السلاح.
من بعد ظهر كل يوم جمعة يفتح أصحابُ شارع الفراهيدي(شارع الثقافة)في البصرة اكشاكهم لبيع الكتب، الكتب لا غير، ويأتي الرسامون بالوانهم وأحبارهم ليرسموا بعضهم، أو الامكنة الجميلة في المدينة، ومعهم يحمل البعض آلاتهم الموسيقية ويغنون انفسهم، متاملين وطناً أجمل، ومع أول خيوط الظلام ينسحب الجميع، هذا كل ما في الامر!! لكنْ فعلاً كهذا يغضبُ مفرزة الشرطة ويرضي زعماء الطوائف، أمّا حوادث القتل والسرقة والسطو والترويع ومظاهر التجييش واقتتال القبائل واستشراء المخدرات والفساد المالي والاداري فهي أفعال مقبولة ولا تقع ضمن عناية أبطال المفرزة.