علي حسين
في مقال نشره الصديق أياد العنبر بعنوان "النخب الثقافية وسيولة المواقف من المنظومة السلطوية"، يعود بنا بالذاكرة إلى الفيلسوف الإنكليزي برتراند رسل باعتباره نموذجاً للمثقف الحيوي، الذي كان مولعاً باستفزاز الحكومات، الفيلسوف الذي ينتمي إلى عائلة أرستقراطية رفض تقديم التنازلات في القضايا التي تبدو عادلة في نظره.
لا أعرف عدد المرات التي قرأت فيها مؤلفات برتراند رسل، قارئاً ومتمعناً في الدروس والعبر التي تقدمها لنا كتابات هذا المفكر الذي استطاع أن يجعل من الفلسفة حواراً يومياً على صفحات الصحف مثله مثل صديقه جان بول سارتر، ولم يعد الفيلسوف شخصاً يخشى الناس الاقتراب منه لصعوبة أفكاره وتعقيدها، وإنما أصبح يشارك في الحياة العملية، ويتخذ مواقف من القضايا المعاصرة، فنجده يتحدث عن الفلسفة والدين، عن الحرب والسلام، عن الشيوعية والرأسمالية، وعن الفرد والسلطة، عن القنبلة الذرية ومستقبل البشرية. في كتابه برتراند رسل يحاور نفسه، يضع وصيته للإنسانية: "إذا بحثت شعوب الأرض جميعاً عن وطن واحد، يضم جموعهم بلا تفرقة، ويتسع لهم بلا حدود، كان هذا الوطن هو.. الحرية".
أتذكر رسل ومعه الآلاف من المثقفين في العالم وفي العراق ممن ساهموا في صناعة الرأي العام ، لأقول إن أسوأ ما ابتليت به حياتنا هو ذلك النمط من المثقفين الذين يتحدثون في الفضائيات ومواقع التواصل عن قيم الحرية والمساواة ويناضلون، فضائياً، ضد الانتهازية، لكنهم يتسللون خفية لانتظار إشارة من الدولة أو الأحزاب الحاكمة ليهرولوا خلفها. يصدعون رؤوسنا بأحاديث عن استقلالية المثقف، ثم لا يتورعون عن التقاط صورة مع سياسي "لفلف الأخضر واليابس".
نقرأ برتراند رسل فنرى كيف تتقدم الأمم ونحن قعود. وإذا قمنا فلكي نقاتل بعضنا البعض. دائماً محملين بأطنان من الأكاذيب وأكوام الخطب. ولا شيء سوى السبات في الجهل والتخلّف والانتهازية .
ظل برتراند رسل يرفع شعار "لا" لجميع أنواع الظلم ، فقد ولد الإنسان حراً ليس من أجل أن يصبح رهينة لسياسي فاشل، أو مجموعة من ناقصي الخبرة والإنسانية .
يجيب زيغمونت باومان على سؤال من هو المثقف قائلاً: "أن تكون مثقفاً يعني أن تتخطى المجال الضيق الذي يوفر لك مصالح شخصية، ن حيث الدخل والامتيازات. ذلك أن النخبة المتعلمة لا ترى أنها معنية، الآن، إلا بشؤونها المهنية. ومن يضطلعون بمسؤوليات حقيقية تجاه مستقبل المجتمع بأكمله عددهم قليل جداً".
ربما محاولة عبثية مني مقارنة مواقف فيلسوف مثل برتراند راسل ، بمواقف بعض النخب الثقافية في بلداننا التي تعيش ازهى عصور الفوضى الديمقراطية حيث تتداخل العطايا والمنح مع المواقف . بيد أن الموضوع ليس من باب المقارنة، وإنما بحثاً عن مثقف يرفض الخنوع .