حيدر المحسن
رغم الظروف العصيبة، هنالك سنين تبقى عزيزة على القلب. في مستشفى الكندي في بغداد –نحن في الثمانينات- قدّمني رئيس الأطباء المُقيمين إلى مديرة القسم، ومن أجل إتمام أمر انضمامي إلى فريقها الطّبيّ عليّ أن أحصل على موافقتها. كانت الطّبيبة (آ) تؤدي عملها وراء حاجز لا يمكن اجتيازه إلّا بارتداء ملابس خاصّة بصالة العمليّات. سألته السيّدة من وراء الحاجز بصوت مرتفع:
"هل الطبيب الجديد وسيم؟".
"إنه رائع!"
أجاب رئيس المقيمين، وهتفت الطبيبة على الفور:
"أنا موافقة إذن".
بين انفتاح المرأة عندنا على العالم وتفتّحها للحياة آصرة تشتدّ طالما كانت الأنثى التي تمثّلها متحرّرة في وعيها ولا وعيها، والأخير هو الذي يعوّل عليه في أن تكون المرأة أو لا تكون، وليس هنالك حالة وسطى. يقول ريلكه: لا توجد امرأة لديها ما تضيفه إلى فكرة المرأة. لو أن الشاعر الألماني التقى بالسيّدة (آ)، لشطب على الفور أداة النفي من كلامه. عندما وقعت عيناي عليها أحسست بأني أواجه جمالا غريبا، تشاهده وتشعر بأنك نائم تحلم، وثمة ضباب يتحوّل داخل رأسك إلى عاصفة. ثم يأخذكَ الحلمُ إلى مكان بعيد ويتركك وحيدا، وإذا كنتَ ضعيف القلب فسوف تشعر بالخوف والذّعر. ثم أثبتت لي الأيّام أنها امرأة متحرّرة وتمتلك شخصيّة قويّة بطريقة نادرة وعجيبة، وملتزمة في الوقت نفسه بالسير إلى آخر الشّوط في طريقة التّعبير عن حريّتها، ذلك أنها انتزعتها بالقوّة من الجميع، ولم يهبها لها أحد.
درستْ سيّدتي الطّبَّ في بغداد، وحصلت على اختصاصها في لندن، وعندما عادت كان معها ما يجري في بلاد الإفرنج من حسّ في العمل وفي فنّ العيش، وحين أرادت نقلَ هاتين التّجربتين إلى العراق، كانت تحاول أن تنزل بهما من أعالٍ لامتناهية إلى أعماق لامتناهية. في أيّ مكان من المستشفى تحلّ يكون الفرح طاغيا ودائما، مع الثّرثرة اللّذيذة التي تسكن كلّ ملّيمتر من المبنى، أو يكون التّرح والسّكون العميق القارس، حسب مزاج الأنثى الحسناء والسّاحرة التي تسكن داخلها. بين قلب المرأة السّعيد والتّعيس، كيف تتغيّر الدّنيا؟!
في السّنة التي عملنا فيها معا كانت نيران الحرب العراقيّة الإيرانيّة تشتعل، ورغم الصّورة القاتمة في صالة العمليّات التي كانت تشهد الألم ومقاساته في طول البلاد وعرضها، حيث الجنود الجرحى غارقون في الدماء والوحل والبارود، وتُجرى لهم عمليّات إعادة التأهيل إلى الحياة، ورغم الملابس الفضفاضة التي ترتديها سيّدتي، كنتُ أتشبّع في كلّ لحظة بلِينِها ورقّة كلامها وتكسّر عظامها، وهي تستدير أو تتكلّم في أثناء العمل، وتضحك وتطلق يديها، كأنّ جسدها كلّه يتكلّم. يحدث هذا حين تكون المرأة متوافقة تماما مع نفسها، ومع طول قامتها ولون بشرتها وطريقتها في السّير، فعندئذ تحافظ على شبابها وتعاند الزّمن والوهن والموت. تقول سيمون دي بوفوار: "لا نولد إناثا، وإنما نصبح كذلك". هل ربّت سيّدتي صورة الأنثى لديها، وتعبتْ وأبدعت كثيرا.
ثم علمت أن رئاسة القسم الذي أعمل فيه يتقاسمه معها طبيب يمثّل المعاكس الموضوعي لها، إذا صحّ التّعبير، فهو مغلق في الوجه وفي القفا، وهي متفتّحة مثل شجرة الجهنّميّة، كما أنه ذو طبع عبوس وحادّ، ويعيش شيخوخة قاتمة يكاد يشبه ساكنها الرّاقد في قبره، بينما تملك سيّدتي أجمل أنف متأهّب للحياة. ليس أمام حتى أعقل الحكماء الطّريقة المثلى للموازنة بين دفّتي هذه المعادلة. راهنت نفسي أن أكون في مسافة بين الاثنين، وفشلتُ بالطّبع، لأنّ من سابع المستحيلات أنّك لا تنحاز إلى المرأة التي هي أنثى حين تتحدّث، وحين تأكل وتمشي وتعمل، وحين تزعل وتغتاظ وتسخط وتغضب، وحين ترتخي تبات مثل حلوى ذائبة.
لا تزال تعيش في داخلي رائحة المكان، وإن كان مشفًى غارقا في بحر من الدّماء والصّديد، وقد تشبّع في ذلك الزمان البعيد بعطر الأنثى الحسناء الساحرة. وإلى الآن، كلّما وقعت عيناي على خيال امرأة، أسأل نفسي إن كنت أترصّد ملامح وأتقصّى تفاصيل حياة المرأة التي عشتُ معها في سنين العمل والحرب.