علي حسين
تعلمنا الصحافة كل يوم أن الحقائق ليست هي الضرورة الوحيدة دائماً، صحيح أن تشريد خمسة ملايين عراقي في الخيام حقيقة، ومقتل عشرات الآلاف منسوفين حقيقة دامغة، ودعاة الثأر الطائفي على الفضائيات حقائق ساطعة، لكن تقلبات بعض السياسيين من اليمين إلى اليسار، والتخندق مع المصالح ضد الوطن نوع متميز من أدب الخيال،
مثله مثل عودة بهاء الأعرجي بثوب جديد و"نيولوك" جديد، أنا يا سادة أفضل وصف ما يقوله ساسة العراق "بالخيال" مثل حكاية دون كيشوت ورفيقه سانشو، في كل مرة وأنا أستمع إلى تصريحات ساستنا "الأفاضل" أتجه بنظري إلى رفوف الكتب لأبحث عن الحكاية التي كتبها الأسباني سيرفانتيس، وأسأل نفسي كم من التأويلات يقبل دون كيشوت؟، وكم من التأويلات تقبل مدينته "لامانتاشا" ساحة معاركه الخيالية؟، إن جرثومة البطولة الزائفة حين تناولها سيرفانتس كفت عن كونها مجرد خيالات وأوهام، إنها تبلع العقل وقد تفتك به، مثلما فتكت بالفارس الهمام دون كيشوت، وحين يعم الوهم يزحف الخراب على المدن والبشر، في القراءات المبكرة تثير دون كيشوت الرواية أسى عميقاً على بطلها الذي توهم أنه يستطيع أن يقيم مملكة الخيال كي يرضي قانونه الخاص، فيصر أن يترك وراءه القليل من الفعل والكثير من الضجيج، كان هتلر يقول: "أصبت بالغثيان وأنا أقرأ دون كيشوت، كيف نستطيع أن نقود الأمة بسيف من خشب؟"، فقائد الأمة الألمانية يؤمن بأن المدفعية والطائرات وحدها القادرة على بناء البلدان .
حاول الأسباني سيرفانتس الذي مرت قبل أيام قليلة ذكرى ميلاده الـ"470" في روايته الشهيرة التي زادت مبيعاتها على المليار نسخة، أن يعبث في الطرح، فقد كانت الحقيقة مرة دائماً، لأن الشر لا يريد لخطواته أن تغادر الأرض، يحمل أسماء كثيرة، ويتخذ صفات عدة، لكن له غاية واحدة هي السخرية من طموح الناس البسطاء، وتطلعهم إلى الخير والمحبة، وتصوير الداعين إلى الألفة والتسامح على أنهم مجانين، يحاربون طواحين الهواء.
في نهاية ملحمة سيرفانتس، يلعن فارس دي لامانتاشا الشهير بين العرب بدون كيشوت، حكايات الفروسية التي صدَّقها، والعالم المثالي الذي حلم به، لكنه مع كل ماجرى يريد أن يعيش حياة جديدة لا أكاذيب فيها، مثل تلك التي يرويها أصحاب المناصب والباحثين عن لفلفة المال، والساعين إلى تحويل المحافظات إلى إقطاعيات خاصة، فالمواطن العراقي لا يستطيع الخروج من عالمه الذي أجبر على العيش فيه، حيث الفساد هو نفسه الذي يُفتّت البلاد، الفساد الذي يصر أصحابه أن يضعوا في مواقع السلطة آكلي ثروات البلاد وطمأنينة الناس.