ستار كاووش
وسط الريف الهولندي الهاديء حيث مدينة آسين، ينتصب متحف درينته ببنايته القديمة، محاطاً بالحدائق، وهو يفتح أبوابه مستقبلاً توافد الناس من كل مكان بمناسبة إقامة معرض سيد الواقعية الأسبانية إنطوني لوبيز هذه الأيام،
هذا الفنان الذي مازال ملهماً وبارعاً ومنشغلاً في إلتقاط مشاهد لوحاته رغم بلوغة الثامنة والثمانين من العمر. يالها من فرصة إذن، للتمتع بمناخ الريف ومشاهدة مثل هذا المعرض الكبير لهذا الفنان الذي كنتُ قد شاهدتُ بعض أعماله في متحف صوفيا بمدريد ومتحف هامبورغ بألمانيا. وها أنا الآن أمام أعماله من البدايات الى هذا اليوم، وكأني أُتابع يومياته وحياته من خلال مسيرته الفنية العظيمة التي أعلنتْ بكل وضوح كيف صارَ لوبيز ظاهرة فنية كبيرة في عموم اسبانيا، بسبب موهبته الفريدة وتنوع أعماله وإختلافات الخامات التي يستخدمها، كذلك الفترة الزمنية التي غطتها أعماله، وهذا كله مصحوباً بالجدية التي ينظر بها الى الرسم، حيث يقضي في بعض الحالات سنوات عديدة مع الواحدة، كي يتوصل الى الشكل الملائم الذي يبغيه ويبحث عنه، كما فعل في لوحته (نظرة من خلال برج لافيكاس) التي أمضى ستة عشر عاماً في رسمها، لا تؤرقه مسألة الجمهور ولا الموضات الفنية العابرة، يبدأ في الرسم ولا يعرف متى سيتوقف، وهذا ينطبق على أغلب لوحاته التي رسم فيها مدينة مدريد التي يعشقها ويعرف شوارعها وبناياتها وكل زواياها عن ظهر قلب.
بدأ المعرض بقاعة مظلمة توزعت على جوانبها مجموعة من التماثيل التي أنجزها لوبيز في فترات متباعدة، وفجأة إنبثقت وسط الظلمة حزمة ضوء وإستقرت على أحد التماثل، بعد لحظات إختفى هذا الضوء تدريجياً، لتلتمع بقعة ضوء ثانية على تمثال آخر، وهكذا ما أن ينطفيء الضوء على أحد التماثيل، حتى يُضاء فوق تمثال آخر، فصرنا نحن المشاهدين نتحرك داخل القاعة ونتحسس هذه التماثيل الجميلة التي تنبثق أمامنا وسط الظلام وكإنها رؤيا بعيدة المنال، أو خيالات تأتي من عالم بعيد ومجهول. بعد قاعة التماثيل، إنفتحت أمامي مجموعة من القاعات الواسعة والمضيئة التي تتابعت فيها أعماله. أمضي مع الأعمال، فأرى كيف رسم أصدقاءه أيام الشباب والبدايات، ثم غطتْ أعماله مسحة من الواقعية السحرية أو الرمزية، ليعلن في نهاية المطاف ولعه بالمدن المكتضة والبيوت الممتدة نحو الأفق. وبين كل هذا وذاك، مراحل أخرى قدم فيها منحوتات عظيمة وكبيرة، كذلك لوحات لمرسمه من الداخل.
تجولتُ وسط المعرض، متنقلاً بين مراحل حياة لوبيز الفنية، وفهمتُ لمَ تُطلق عليه الأوساط الفنية في مدريد تسمية أهم فنان اسباني على قيد الحياة. ولم أكن أتصور بأني سأشاهد أعمالاً تمتد لسبعين سنة كاملة قضاها هذا الرسام منشغلاً بين الأصباغ وقماشات الرسم، كذلك تفرغه لإنجاز منحوتاته الضخمة التي وصل وزن الواحدة منها الى ٨٥٠ كيلوغرام، كما في المنحوتتين اللتين نحت فيهما رأس حفيدته كارمن، حيث تفتح عينيها في واحدة وتغلقهما في الأخرى، واللتان وضعتا متقابلتين في صالة كبيرة من هذا المعرض الاستثنائي.
إشتهر لوبيز برسم أو نحت الأشخاص الذين يعرفهم جيداً، فهو يحب التعايش والتواصل مرات عديدة مع الأشخاص الذين يتناولهم في أعماله، ثم يقوم بصنع هذه الاعجوبات الفنية. وقد إزدادت شهرة لوبيز بعد أن تم تصوير فيلم عنه بعنوان (شمس السفرجل) سنة ١٩٩٢، للمخرج فيكتور إيريس، حيث إستغرق تصوير لوبيز عدة أشهر وهو يرسم شجرة سفرجل في الباحة الخلفية لمنزله. وقد حصل هذا الفيلم على مجموعة من الجوائز في مهرجان كان، ويُعتبر الآن من التحف التي قدمتها السينما الاسبانية.
هناك الكثير من الاتجاهات الواقعية في اسبانيا، وبالنسبة للوبيز فهو ينتمي الى واقعية مدريد، حيث تقترب أعماله من صور غريبة التكوينات، لكن حين نقترب منها نلاحظ آثار بعض الخطوط الأساسية وشخطات القلم التي تركها دون حذف أو تعديل، كذلك نلاحظ الشرائط اللاصقة وبعض الكولاجات التي بدت مؤقتة لكنه تركها، لتصبح فيما بعد جزء من العمل وتقنيته.
من سمات فن لوبيز، هو أنه يحاول إلتقاط جوهر الأشياء، ولا يعتمد على المصادفة أو العفوية الكاملة، فنرى كيف دَرَسَ كل شيء بعناية فائقة من حيث الأضواء والظلال والخطوط وتوزيع المفردات وبناء التكوين، وبذلك نقل التفاصيل اليومية التي بدت في غاية البساطة، الى أعمال فنية ذات قيمة عالية. بضع ساعات قضيتها وسط الواقعية الاسبانية واعمال لوبيز الساحرة. وكما إبتدأتُ المعرض بقاعة مظلمة، فقد ظهرت لي في نهاية المعرض قاعة مظلمة أخرى، تُعرض فيها مجموعة من الأفلام القصيرة حول هذا الفنان، وكيف يقضي الوقت في مرسمه، وقد تحدثَ عن تقنياته وإستلهامه لمواضيعه وسط مدينته التي يحبها مدريد. خرجتُ من المعرض وأنا أفكر بزيارة قريبة الى مدريد، لكن هذه المرة سأجوبُ الشوارع التي رسمها لوبيز، وأتحسس البيوت التي عشقها وأدخلها في لوحاته.