قادني التيه الذي أعانيه، منذ أن حططت بمرتكزي.. بغداد، إلى استعارة مساحة فيها بعض من الأمل والطراوة ما يجعلني أكثر قدرة على استيعاب الواقع الجديد الذي يشبه الكوابيس أحيانا، بعد غياب لسنوات طوال.. تابعت خطواتي تدفع بي الريح، حيث يقيم الشاعر الذي أحب بموازاة ما كان يطلق عليه شارع أبي نؤاس، أو الكورنيش، أملاً في الصورة الموشومة في الذاكرة، لكن، وللأسف كان فعل ماضٍ ناقص، كما الصورة ناقصة من كل ماله صلة بمفردات الجمال والشعر النواسي، وهو يعانق الخيام، وهمس العصافير حين تذوب بقاع الكأس عشقا.
الصورة الأولى: جبل من ركام الأتربة والنفايات يكاد يحجب النهر العظيم دجلة الخير وشاعره عن ناظري المعتنين إليه، وعلى بعد خطوتين يافطة معدنية كبيرة تحكي عن مشروع أمانة بغداد في إصلاح الشارع الذي يحمل اسم أجمل شعراء الدنيا وشاغلها.. ولكن أين الإصلاح وكيف ومتى توفى الأمانات.. ؟؟
الصورة الثانية: أوراق فاقدة الصلاحية، وأوراق الكلينكس تراقصها الرياح كما تشتهي، وبقايا سندويج، وأعقاب سكائر، وعلب الكولا، وكل ما يخطر على البال من زجاجات وعلب المشروبات الغازية التي يلقي بها المارة من نوافذ سياراتهم، وأشياء أخرى.
الصورة الثالثة: بيت صغير بني بشكل يثير الفضول يقترب كثيرا من غرائبية المسارح الرمزية، وعلى سطحه شبكة الستلايت، استغرقت بالنظر إليه طويلا حتى دسست رأسي في مرآبه، ما أثار حفيظة نقطة التفتيش القريبة منه، فصاح أحد الجنود: ها.. ماذا تريدين.. ضحكت من عجبي: لا لا فقط أتفرج.. رد ممازحا: هل تريدين شراءه؟ قلت: نعم.. بكم.. أجاب: ببلاش.. ألقيت التحية ومضيت.
الصورة الرابعة: متسولون بأعمار مختلفة، وبأعمال مختلفة، بيع العلج.. سكائر.. حلوى، ومسح زجاج السيارات، وبدع الأطفال المعاقة المحمولة، وشهادة طبية بأنواع الأمراض، وأساليب تسولية.. توسلية بإلحاح، ما تبرح أن تتحول إلى شتائم وكلام ينزلق عنه رداء الخجل، حين لا تجد تعاطفا وردود فعل نقدية.. كاش سريعة..
الصورة الخامسة: هي الأكثر حسرة،.. آه، أبو نواس، وهمست في سري، بكلمات كتبتها ذات مرة، حين كان للعشق بيت ومرفأ.. (قالت عدنا.. أنكرنا بعضنا وقلنا في النفاق كلام، وقرأنا على الحب السلام..) نعم قرأت السلام على الكأس الفارغة التي ما انفكت تحتضن روح الشاعر النواسي..غبار يغطي عمامته، ويخفي ملامح وجهه، وتلويحة يده.. بقايا أشياء غرست في خواصره، ونالت من كبرياء الشاعر، وثمالة نخبه.. إهمال متعمد لنصب الشاعر واسمه المرتبط بتاريخ وثقافة بغداد، كجزء من هجمة التهميش والتكسير لرموز الشعر، والأدب، والثقافة، والعلم، وإفراغ بغداد ومحتواها من كل ما يشكل ثقافة بلد، وعاصمة ظللت رموش شمسها وجه العالم، وأنارت حلكة ظلمته.. تسمرتُ في المكان بعمق تاريخ الشاعر، ولوعة شعره المسجاة على عذاب دجلة، وغياب مطر العشق الذي كان في المكان.. سحبت شباكا غير مترعة بأي شيء أعود به إلى ذاتي الضائعة حينا، والمضطربة حينا آخر.. لا بالحب، ولا بالأمل، ولا بمنقذ ولا مخلص، يأتي من أين؟..لا أدري؟؟
إهمال متعمد لنصب الشاعر وشارعه
[post-views]
نشر في: 27 نوفمبر, 2012: 08:00 م