TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عبثية نادو.. فوضوية نظمية

عبثية نادو.. فوضوية نظمية

نشر في: 1 ديسمبر, 2012: 08:00 م

ما كنا ندري أن كل ما قرأناه في أدب الكاتب الفرنسي البير كامي، يتجلى بأبشع صوره العبثية في شوارعنا المهجورة الخاوية إلا من الصخب والفوضوية الطاحنة، وما كنا ندري بفجاجة القدر، وتحول" الكاركترات"  المرسومة على الورق إلى شخوص حية حقيقية تتخذ من أسفلت الشوارع المجعد بيوتا جنباتها من كارتون، وأسقفها من هواء، وما كان خيالنا يتسع ذات يوم وسع الصورة القاسية، التي عليها الآن أعداد ليست بقليلة من البشر العراقي، بكل أبعادها، وسوداويتها، وقساوتها.. صورة تجاوزت المعقول واللامعقول،وكل ماله علاقة بقيمة الإنسان، وآدميته، حتى اقترنت.. للأسف والاعتذار، بصور الكلاب والقطط السائبة، التي تعتاش على ما يرمى إليها من بقايا طعام، وبذات المكان تنام وتقضي احتياجاتها الإنسانية المختلفة، نعم يحدث هذا في بلد بترولي، و ثاني احتياط في العالم، وربما أكثر من ذلك في أماكن، لم تكن على مرمى بصر منا.

فعلى مقربة من ساحة الخلاني، امرأة يقف عمرها على أعتاب الخمسين بشعر أشعث تشوبه صفرة، وملابس اجتمعت عليها كل وساخة الدنيا، اتخذت من الجانب الأيمن بيتا نهاريا ومن الجانب الأيسر بيتا ليليا، فيما تتخذ من الجزرة الوسطية استراحة محارب عندما يقترب وقت الظهيرة، وهذان البيتان يتشكلان من بطانيتين وكارتونة مزدوجة الاستخدام، كمصد للريح، و الشمس، وبنفس الوقت جعلت منه صندوقا تضع فيه المشط، وكتاب بعنوان (قصائد العيد)، ومآرب أخرى.

هذه السيدة كثيرا ما أثارت فضولي، كلما مررت من ذاك الطريق، سواء شكل جلستها المسترخية،  وكأنها تستعد لالتقاط صورة تذكارية، بنظرات تأملية، وحتى طريقة تعاطيها مع سيجارتها فهي ليست تقليدية تكاد تنفلت من بين أصابعها،  لذا اقتربت منها، في محاولة لمعرفة حكايتها، وبكثير من الحذر، لكن للأسف وصلت متأخرة جدا، لسبب وحيد هو أن هذه المرأة فقدت لبها، وغادرها عقلها، ولم يبق ما تقوله غير كلمات مبعثرة ملتبسة، أشبه بالكلمات المتقاطعة، وجمل مبتورة لا معنى لها، ونظرات مشدوه تطل من وراء نظارة شمسية سوداء، ترتديها في وقت انطفاء الشمس، وتزاحم الغيم محلها، تنشغل عن محدثها بقراءة كتاب (تعلم اللغة التركية في أسبوع)، لا تعلم عنه شيئا، ولا تعلم ماذا تقول، غير اسمها (نظمية)، وكلام يتماهى بعضه في البعض الآخر عن سوق الصاغة، والخوف، والغياب، والرحيل، وضعتني في حيرة السؤال والتواصل معها، شخصية عبثية تقترب كثيرا من كاركتر (نادو) في مسرحية الطاعون لألبير كامي، الثمل دائما، والساخر من كل شيء وعلى أي شيء، وحين يسأل يرد بفلسفة لا تخطر ببال، ولذا كان يُمطر بالأسئلة الغريبة، كالشرف، فيصفه (ظاهرة طبيعية حدثت في الماضي، وانتهت فلنلغيها)، وهكذا (نظمية) أسألها عن اختيارها الشارع ملاذا للعيش فترد (عوفي السجائر تضر بالصحة)، فتعطلت معها اللغة، وأدركت أن هذه السيدة الفوضوية (قصرا) شخصية غير عادية، ووطيدة الصلة بالكتاب، وما تعرضت له من مصائب ما ينوء به حمل بعير، لا طاقة لها على احتمالها، فطار منها العقل، ومعه طار كل شيء، انسحبت من منفاها الكارتوني بغصة وحسرة على حال بلد ميزانيته قاربت على المئة وخمسين مليار دولار، وأبناؤه يسكنون الأرصفة بلا وطن، ويأكلون الز.... سلام الله عليك يا وطن الكارتون...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جنرالات الطائفية

العمود الثامن: لماذا لا نثق بهم؟

الصراع على البحر الأحمر من بوابة اليمن "السعيد" 

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

 علي حسين أعرف جيداً أن البعض من الأعزاء يجدون في حديثي عمّا يجري في بلدان العالم نوعاً من البطر لا يهم المواطن المشغول باجتماعات الكتل السياسية التي دائما ما تطابنا بـ " رص...
علي حسين

قناطر: الربيع الأمريكي المُذِل

طالب عبد العزيز هل نحن بانتظار ربيع أمريكي قادم؟ على الرغم من كل ما حدث، وقد يحدث في الشرق الأوسط، نعم، وكم هو مؤسف أن تتحرك دفة التغيير بيد القبطان الأمريكي الحقير، وكم قبيح...
طالب عبد العزيز

تضارب المصالح بين إسرائيل وتركيا في سوريا وعواقبه

د. فالح الحمـــراني كما بات معروفاً، أن وزير الدفاع الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو*، خلال لقاء حول موضوع الوجود التركي في سوريا، طرحا مقترحاً لـ"تقسيم سوريا إلى مناطق مقاطعات (الكانتونات)". وذكرت صحيفة إسرائيل هايوم عن خطة...
د. فالح الحمراني

النظام السياسي في العراق بين الخوف من التغيير وسؤال الشرعية

أحمد حسن لفهم حالة القلق التي تخيم على النخبة السياسية في العراق مع كل تغيير داخلي أو إقليمي، لا بد من تحليل عميق يرتكز على أسس واضحة ومنطقية. فالشرعية السياسية، التي تعد الركيزة الأساسية...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram