اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > هل هناك تاريخ واحد للعالم؟ أم ثمة تواريخ لم تدوّن بعد؟

هل هناك تاريخ واحد للعالم؟ أم ثمة تواريخ لم تدوّن بعد؟

نشر في: 21 مايو, 2024: 10:22 م

نانديني داس*

ترجمة: لطفية الدليمي

التفكيرُ بالتواريخ (السيناريوهات) البديلة أمرٌ له جاذبيته وإغراؤه على الدوام في حيواتنا الحالية أو في كلّ حين نحاول فيه إضفاء معنى على الوقائع الماضية.

 

التساؤلات بشأن ما حدث في الماضي يمكن أن تنزلق بسهولة لتتحوّل إلى حدوسات تخمينية في ما قد يكون عليه شكل التاريخ اللاحق لو أنّ هذه الوقائع لم تحدث أصلاً أو لو أنّها حدثت على نحو مخالف لما حدثت به. المؤرّخون لا يميلون كثيراً إلى مساءلة مثل هذه التخمينات؛ لكنّ عالم التخييل الروائي يمكن أن يتغذّى على مثل هذه التواريخ التخمينية البديلة للتاريخ الحقيقي الذي عشناه وشهدناه.

في شهر تشرين ثاني (نوفمبر) من عام 1616 كتب السير توماس رو Thomas Roe، وهو أوّل سفير إنكليزي لدى الهند، رسالة إلى رؤسائه في شركة الهند الشرقية. إشتكى رو في هذه الرسالة المليئة بالاحباط من أنّهُ يُعاملُ من قبل البلاط المغولي الفخم كممثّلٍ لسلطة"إفرنجية" غربية تمثّلُ مصالح نخبة من الاقلّية؛ لكن برغم هذه الشكوى الطافحة بالمرارة فإنّ الموضوعة الرئيسية للرسالة ركّزت على الأخطاء الجسيمة للشركة. أكّدت الرسالة مرّات عديدة، وبنبرة تحذيرية جازمة، أنّ" الحرب والتجارة أمران لا يتعايشان مع بعضهما، وأنّ من الافضل السعي وراء المنفعة(الربح) في بيئة تشجّعُ على التجارة السلمية...". لم يكن السفير رو وهو يكتب هذه الكلمات ينحو منحى مثالياً في تغليب الاخلاقيات على ما سواها عندما يختصُّ الامر بالمصالح الانكليزية المدفوعة بالطموحات الامبراطورية العالمية. نصيحة رو التي ضمّنها رسالته تجوهرت في ضرورة الاستخدام الامثل لموارد شركة الهند الشرقية بدلاً من إعلاء شأن الرفعة الاخلاقية للامبراطورية البريطانية؛ لكن لن يكون أمراً ذا شأن بعد هذا لو تطابقت المصالح الامبراطورية مع الخصيصة الاخلاقية المثالية الرفيعة. وكما يخبرُنا التاريخ اللاحق فإنّ التجارة السلمية لم تظلّ الغاية المرتجاة للإنكليز في الهند. يحقّ لنا أن نتساءل: ماذا لو أنّ نصيحة رو جرى إتباعُها؟ سأقول من جانبي، ونظراً لعملي في حقل تاريخ السفارة الانكليزية الاولى في الهند، أنّ هذا السؤال ظلّ من الاسئلة التي لا تخمد، ولطالما جرى تكرارها وكانت مادة شغلت تفكيري الشخصي أو أحاديثي مع آخرين. الجواب اليسير المتاح لهذا السؤال هو أننا لا نعرف المسار الذي سيتخذه التاريخ لو جرى إتباعُ نصيحة رو؛ لكنّ إنكار السؤال وتجاهله ليس بالمقاربة المقبولة أو المفيدة لأنّه سيعني بالضرورة حتمية المواجهة العسكرية العنيفة التي حصلت لاحقاً، وسيعني أيضاً شطب كلّ الامكانيات البديلة للوجود البريطاني في الهند واعتبار الوجود العسكري المباشر هو الامكانية الوحيدة. هذا شكل من أشكال الحتمية التاريخية Historical Inevitability التي لا أميل إليها أبداً.

سأكونُ دوماً في صحبة طيّبة مع التاريخ لو أتيح لي القدرة على التأمّل والحدس والتخمين في تواريخ بديلة. إنّ المساءلة الاستكشافية لوقائع لم تحصل في التاريخ ليست بالأمر الجديد، وربّما المثال النموذجي الأفضل على مثل هذا المساءلة هو السؤال الذي لا ينفكّ يتردّدُ بين حين وآخر: "ماذا لو أنّ هتلر إنتصر في الحرب العالمية الثانية؟". يلجأ المؤلفون الروائيون في العادة إلى الفضاء السردي عند التعامل مع هذه الاسئلة فهذا الفضاء مفتوحٌ أمامهم من غير محدّدات لعرض وجهات نظرهم ورؤاهم المتعدّدة والمتباينة. صنع التفكير الحثيث في سؤال" ماذا لو أنّ الحرب العالمية الثانية إنتهت بكيفية مخالفة لما إنتهت إليه؟" خطّاً فكرياً أنتج كثرةَ من الروايات، منها: رواية The Man in the High Castle للروائي فيليب كي. دِكْ Philip K. Dicke، ورواية Fatherland للروائي روبرت هاريس Robert Harris، ورواية Dominion للروائي سي. جَيْ. سانسوم C. J. Sansom. هذه الروايات - والعديد سواها- تناولت تواريخ عالمية خسر فيها الحلفاء الحرب العالمية الثانية أمام ألمانيا النازية. إتّبع روائيون آخرون مساءلة إستكشافية في تاريخ أبعد من الحرب العالمية الثانية، وكمثال على هذا الفعل يمكن الاشارة إلى عمل الروائي كيم ستانلي روبنسون Kim Stanley Robinson المعنون The Years of Rice and Salt والذي يصوّرُ فيه الكاتب كيف أنّ المحو الكامل -تقريباً- لسكّان أوربا بعد جائحة الطاعون القاتلة أدّى إلى تاريخ جيو-سياسي عالمي بديل صار فيه الاسلام والبوذية الدينيْن المُهَيمنيْن على العالم.

فيما يخصُّ المؤرّخين المتمرّسين، تمثّلُ الرغبة في دراسة واستكشاف التواريخ البديلة Counterfactualism مقاربة شاذة، غريبة، خارجة على السياقات المعتمدة، سخيفة غالباً، وقد تكون محفوفة بالخطر في بعض الأحايين؛ لكنها إشكالية دوماً. يرى هؤلاء المؤرّخون أنّ هذه المقاربة التاريخية البديلة قد تقود أحياناً إلى دفع بعض المؤرخين لإسباغ توصيف لا يخلو من بعض الطرافة عليها، وهو توصيف يتوافق مع ما إقترحه إي. بي. تومبسون E. P. Thompson الذي رفض هذه المقاربة كلياً واعتبرها "هراءً غير تاريخي، يسمّى بالالمانية Geschichtswissenschlopff "؛ لكنّ الغريب في الامر أنّ هذه المفردة التوصيفية القاسية لم تلق قبولاً حتى في أضيق النطاقات الممكنة، ولم يتداولها أحدٌ خارج نطاق الكتاب الذي كتبه تومبسون ونشره عام 1978 بعنوان The Poverty of Theory. في سياق مختلف عمّا سبق، عندما كتب مؤرّخ تاريخ الأفكار البريطاني ريتشارد جَيْ. إيفانز Richard J. Evans مقالته ذائعة الصيت في صحيفة (غارديان) عام 2014 بعنوانها اللافت للأنظار " (ماذا لو؟) هي إضاعة وقت What if?’ is a waste of time " فقد قصد الاشارة إلى المترتّبات الآيديولوجية االمصمّمة بقصدية مسبّقة لخدمة أغراض محدّدة من وراء نشر مثل هذه التواريخ البديلة. قصد إيفانز بنقوداته الصارمة نمطاً من التواريخ البديلة التي لاقت رواجاً شعبياً مثل كتاب نيال فرغسون Niall Ferguson المعنون Virtual History: Alternatives and Counterfactuals. يرى إيفانز أنّ المعضلة الكامنة في مثل هذه "التمرينات الفكرية" لا تكمنُ في نزعتها إلى التأمّل والحدس والاستكشاف للبدائل التاريخية الممكنة؛ بل يكمنُ خطرها المحتمل في نزوعها الملّح لتعزيز ما أسماه "الفرادة التاريخية"، مشيراً إلى أنّ مثل هذه الاعمال تعيدنا إلى حقبة "الأبطال التاريخيين العظماء" حيث تحدّدُ أفعالُ بعض الأفراد حركة ومسار التاريخ العالمي كلّه.

تساءل إيفانز: "لماذا يتوجّبُ علينا ونحنُ في بواكير القرن الحادي والعشرين مقاربةُ التاريخ على هذا النحو (أي بقراءة تواريخ بديلة)؟ أجاب إيفانز على تساؤله هذا بأنّ إهتمامنا الكبير بالتواريخ البديلة مرتبطٌ أشدّ الارتباط بالوضع مابعد الحداثي Postmodern Condition الذي يدعو إلى عدم الوثوق بالخبرة والحقائق اللتين تمثّلان المادة الجدالية على المستويين الاكاديمي والعام. هذه بالتأكيد هواجس صالحة للتفكّر والاعتبار؛ لكن ثمّة رؤية أخرى. في كتابهما المنشور عام 2021 بعنوان A Past of Possibilities: A History of What Could Have Been لا يتغافل مؤلّفا الكتاب Quentin Deluermoz و Pierre Singaravélou عن مخاطر التواريخ البديلة؛ لكنهما في الوقت ذاته يشيران إلى أنّ المقاربات التاريخية التقليدية ليست بمنأى عن الوقوع في فخّ ما أسمياه "الانحياز المتأخّر hindsight bias". بكلمات أخرى: الاستدلالات التي تنبثق من بحثنا التاريخي لا تتشكّلُ بمعرفتنا فحسب بل في السياقات التي نعمل في ظلّها وتحت تأثيرها. إنّ مساءلة مثل هذه الاستدلالات التاريخية التقليدية عبر دراستها ورؤيتها في سياق أسئلة إفتراضية من نوع "ماذا لو؟؟؟" هو أمرٌ يختلف تماماً عن الحدس الحر غير المقيّد. أحد الادعاءات المثيرة لهذين المؤلّفيْن هو أنّ كثرة من التواريخ البديلة وجدت مواطن لها خارج أوربا في الأمم التي كانت مستعمرات سابقة، ومجتمعات كانت مهمّشة، مثل الهند وأستراليا وبلدان أمريكا اللاتينية. يواصل المؤلفان جدالهما الحجاجي فيكتبان في كتابهما آنف الذكر أنّ مثل تلك المشاريع لكتابة تواريخ بديلة في مناطق من العالم خارج أوربا " إنّما هي محاولاتٌ لبناء سردية أخرى للتاريخ العالمي عبر تغيير مقياس التحليل مع المحافظة على كلّ المنظورات الاخرى".

فيما يخصُّ كثيرين من المنشغلين بالتواريخ البديلة في أيامنا الراهنة فإنّ الدافع الاساسي لديهم لدراسة التواريخ البديلة والكتابة عنها هو بكلّ وضوح ليس رغبة في إضفاء عظمة إضافية على بعض الأفراد العظماء أو على وقائع كبرى محدّدة. يسعى هؤلاء، وكمقاربة بديلة، إلى تذكيرنا مرّة تلو أخرى بأنّ الاراشيف (المحفوظات التاريخية) وطرائق البحث التاريخي اللتيْن تعتمد عليهما الشواهد التاريخية التقليدية هي بذاتها قلّما تكون محايدة. من عاش ومن مات من البشر؟ ووثائقُ مَنْ من البشر تمّ الحفاظ عليها، وأيّها أتلِفتْ؟ وما الحكايات التي تروى حتى اليوم، وبأيّة كيفية وسياق تروى فيه لتخدم غرضاً محدّداً؟ هذه الاسئلة وكثيرٌ سواها إعتمدت كثيراً على من هو متاحٌ له الامساك بقدرات سلطوية أكثر من سواه. ترى الاكاديمية الامريكية سيديا هارتمان Saidiya Hartman أنّ تلك المحدوديات المحتّمة تستلزمُ طرقاً جديدة في مساءلة الماضي بما قد ينتجُ عنه نمط من الكتابة التاريخية يصحُّ وصفه بِـ "الخيال النقدي Critical Fabulation". تكتب هارتمان في هذا الشأن:"هذا النمط الكتابي في التخييل التاريخي من شأنه دفع التاريخ ليكون أبعد نطاقاً من حدود الملفات والسجلات الارشيفية المحفوظة، ولكي تتاح له القدرة في تأمّل ما قد يكون حدث". يذهب بعضُ المؤرّخين أبعد من هذا؛ إذ ترى ستيفاني سمولوود Stephanie Smallwood أنّ الامر أبعدُ من محض منح صوتٍ لما قد تكون التواريخ الحالية قد أسكتته؛ بل ما هو أكثر أهمية من هذا هو تشخيص المسكوت عنه، ومن ثمّ الاعتراف بما تمّ إسكاته، ولماذا حصل هذا الاسكات مقصوداً كان أم بنتيجة تغافل أو خطأ أو إهمال.

لم تزل النقاشات الجدالية والمحاججات الفكرية بشأن ما الذي يكوّن التاريخ مصدراً لشيوع فهم أحادي الرؤية، صلد لا يتغيّر بشأن الماضي، تشكّله مجاميع من الحقائق الحيادية المستقاة من أعماق السجلات المؤرشفة. أعتقد أنه قد حان الوقت،ربّما، لأن نوجّه إهتماماً جديداً ومكثّفاً للشظايا التاريخية وللأصوات المغيّبة التي لم نسمعها، وللإنعطافات التي لم ندرسها أو نتأمّل فيها بدقّة. باختصار وجيز: يجب الانتباه إلى التاريخ الذي لم يُسَجّلْ، وإلى التواريخ الممكنة التي لم تحصل.

* نانديني داس Nandini Das: أستاذة الادب الانكليزي والثقافة الانكليزية في جامعة أكسفورد. لها إهتمامات واسعة في أدب عصر النهضة، والسفر، والهجرة، والتداخلات الثقافية العابرة للقوميات. نشرت كتباً عديدة آخرها الكتاب المعنون:

Courting India: England, Mughal India and the Origins of Empire.

. العنوان الاصلي لهذه المادة المترجمة المنشورة في صحيفة الغارديان بتاريخ 30 آذار 2024 هو:

why we should study the history that never happened?

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت

حوار مع الروائية الفيلسوفة أيريس مردوخ : الرواية الجيدة هي هِبة للإنسانية

"الزنا".. أحدث روايات الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو

هل دجلة الخير للجواهري نهر؟

كيف تموت منتحرا؟

مقالات ذات صلة

فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني
عام

فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني

د. نادية هناويمنذ ثورة أوروبا الصناعية في القرن التاسع عشر، والعالم غير الصناعي ينظر بعين الريبة إلى المستحدثات الصناعية والمبتكرات العلمية، متوجساً مما ستصل إليه الثورة العلمية من اختراعاتٍ وتقنياتٍ، فيضع احتمالاتٍ مستقبليةً فيها...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram