طالب عبد العزيز
في التاسع عشر من كانون الثاني 2009 وبصالة الفندق بالرياض وضمن وفد ثقافي- فني- بصري يزور السعودية كنتُ قد اكتفيت بتعريف الشاعر زهير الدجيلي لأعضاء الوفد، بأنه صاحب كلمات أغنية (الطيور الطايرة) التي غناها سعدون جابر، ولحنها كوكب حمزة، ومع أنّهَ( الدجيلي) لم يرَ في ذلك تعريفاً مجزياً به، كيف لا؟
وهو الشاعر الغنائي، والصحفي، والسيناريست، والاعلامي، وصاحب موقع الجيران، والمناضل الشيوعي الذي أمضى شطراً من حياته متغرباً، والحقَّ أقول: كنتُ على دراية ببعض قليل مما له، لكنني، كنتُ أرى بأنه لو لم يكتب إلا (الطيور الطايرة) لكفته مؤنة التعريف به، فالأغنية كانت تعويذة العراقيين أجمعهم قبل سقوط النظام السابق.
عدنا من الرياض، ومضت بنا الايام، فينتدبني للكتابة في موقع الجيران، الذي يرأس تحريره، وهو موقع الكتروني، عمل على مدَّ الجسور، وتمتين العلاقة بين شعبي العراق والكويت، بعد القطيعة المعروفة، فكان الموقع مثابة إعلامية نادرة، ثم اقترحني مراسلاً لصحيفة القبس من البصرة، التي يكتب فيها، وعملت معه سنوات، وكنا نتكلم ونتراسل ونلتقي في الكويت وخارجها، وقد اشتركت معه بأكثر من فكرة ثقافية وإعلامية، لذلك رضيت به صديقاً حميماً، وانساناً كبيراً.أما وقد مرّت ثمانية أعوام سود على فقده(توفي في3مارس2019) سأظلُّ مديناً للروح الصادقة، والأنفاس الشجاعة والوطنية، والانسانية التي عرفتُه عليها.
أنموذج الشاعر الغنائي زهير الدجيلي وقلة من شعراء الاغنية من العراقيين والشيوعيين على وجه التحديد يضطرني الى المقارنة بينهم والشعراء الشعبيين الذين كنا نشاهدهم في مهرجانات الشعر الشعبي، التي كانت تقام أيام النظام السابق، والطريقة الوضيعة التي كانوا يظهرون بها، في استجدائهم المال والحظوة عند رأس النظام آنذاك. كنتُ شاهداً على قبح الشعر والشاعر الذي كانه بعضهم، وكيف قدموا للناس المثال السييء في الخسة والانحطاط الاخلاقيين.
لغة وفكر وشعر وانسان زهير الدجيلي شكلت وحدةً موضوعيةً، فالشاعر الذي فيه لم يكتف بما يرد عليه من الموهبة، ولم يكُ سيقةً لما يتحرك في مجتمعه، ليقينه بأنَّ الشاعرَ وبأي لغة كتبَ، عليه أن يكون طليعياً في الحياة قبل الشعر، وهكذا، وجدتُ معظم الشعراء الشعبيين والغنائيين الشيوعيين، متساوقين مع أقرانهم في شعراء الفصحى، ينهلون من ذات المعارف، قراءةً وسماعاً، فيما بلغت بشعراء حقبة البعث أنْ تراهم عند كل وليمة تقام، وإن كانت على حساب دماء الآلاف من بني جلدتهم، فلا كرامة ولا طهارة ولا عفة، وأني لأرى في سلوكهم واحدةً من اسباب كراهة الشعر عند الناس، في تلكم الايام، التي أصبح الشاعر فيها موصوماً بالخيانة والسفالة، جراء قصائد المديح التي كانت تكال الى النظام وحزبه ورأسه.
ما امتاز وانفرد به الدجيلي شاعراً كبيراً هو ما امتاز وانفرد به الشاعر الكبير مظفر النواب، فهما ممن أحبَّ اللغة العربية، واتقنها، وأخلص لها، وكتب بها، وإذا كان النواب قد كتب القصائد الفصيحة وكانت رديفاً لمنجزه المعلوم في الشعر الشعبي فأن الدجيلي ذهب الى الدراما، وكتب للراديو والتلفزيون أجمل الاعمال، فهو الذي كتب (95) حلقة من برنامج " افتح ياسمسم " البرنامج الشهير في المحطات العربية، وهو من كتب حلقات برنامج "سلامتك"، وبرنامج " المرايا"، وبرنامج " قف " فضلاً عن حلقات العديد من المسلسلات مثل " عبد الله البحري " و" عبد الله البري "، و" زمان الاسكافي"، و"جدي مع التحية" وقام بتأليف مسلسل " الاخطبوط" و" للحياة وجه آخر" كذلك كتب سيناريو وحوار فيلمي: مطاوع وبهية، و النهر. وهلّا نذكرُ بصاحب كلمات أجمل الاغاني العراقية مثل: حسبالي، يمتى تسافر ياكمر، امغربين، انحبكم، مراضيتك، هوى الناس، مرة وحدة، بيت العراقيين..".
إذا كان الحزب الشيوعي العراقي قد قدَّم التصوّرَ الانساني الافضل في الحياة والشعر والفن، عبر شعراء مثل النواب والكاطع واسماعيل وابو سرحان وزهير الدجيلي وغيرهم وكان قرين التحولات المدنية والحضرية في المجتمع، حين جعل من الثقافة محوراً في مشروعه السياسي، فقد قدّم نظام صدام حسين وحقبة حزب البعث الأنموذج المنحط في ذلك، وتجلت صورة الانحطاط ذاك في الشعراء الشعبيين بخاصة، الذين تحولوا الى قردة، راقصين في حلبات جنون الدكتاتور، فيما ظلَّ بريق الشعراء الحقيقيين خالداً في ضمير الناس. أو لم تكن فريدته (الطيور الطايره) مجزيةً في التعريف به؟