طالب عبد العزيز
المصادفة وحدها هي التي جعلت من وفاة الفنان عاصي الرحباني في اليوم العالمي للإحتفال بالموسيقى 21 حزيران من كل سنة، عاصي الذي ولأنني أحاول أنْ أبعد عني كل ما هو وحشي واسود فسأحتفل على طريقتي الخاصة، ولتذهب الشمس وتفعل ما تريد. ففي أكثر من 120 دولة حول العالم هناك احتفالات بهذا اليوم، ولأتصور نفسي حاضرة، في مكان ما من الارض، إذْ أنَّ الشعار الذي رفعه المحتفلون بيوم الموسيقى يقول:» الموسيقى في كل مكان، والحفل في أي مكان». في الغرفة المبردة الصغيرة حيث أجلس وأكتب القطعة هذه، بعد استراحة عيد الأضحى الطويلة، التي انصرفت فيها لنفسي، بعيداً عن منغصات كثيرة، فأنا استمع لنصائح الاطباء وعلماء النفس والمصلحين الاجتماعيين، الذي يجمعون على القول بوجود استنفاد آخر المتع لمن تجاوز الستين، وبما أنني تجاوزت السبعين بعام فقد أخذتُ نصائحهم على محمل الجد، وقررت ألّا أجعل للضجر في نفسي نصيباً، ولولا أصوات باعة الخردوات ومؤذن المسجد القريب لكنت خِلّواً من كلِّ غمٍّ وهم. أمرٌ مؤسف أننا نتقدم بالتبرير لأي فكرة، ونتذرع بشتى الأعذار لكي نقول كلمةً حقيقيةً نؤمن بها، ومع كلِّ قوانين الرفض والصلف التي تسكنني، إلا أنني جبانٌ، خائفٌ، مرتعدٌ أمام مقرِّ أيِّ حزبٍ أمرُّ عليه، من مقر حزب البعث الى مقرِّ أيِّ منظمةٍ اسلاميةٍ، يقف على بابها رجل ملثم ببندقة ونظارة سوداء. لذلك، قلّما أشهرُ أغنيةً صاخبةً على صفحتي الخاصة، ولا أرفع كأساً حمراَء أو صفراءَ فيها، ولا أتبرم من مشهد سياسيٍّ، ولا أدّْعي بطولةً في حوار، وإن كانَ مع أصدقاء أعرفهم، فهذه بلادٌ تنحدر في تشدّدها الطائفيّ، والسياسيّ، والاجتماعيّ، ويسودها أناسٌ لا يرعون في عنقي إلاًّ ولا ذمّة. ألا يكون هذا مبرراً للجبن؟ أنا ألزِمُ جسدي دارهُ في أيامٍ كثيرة، منها أيّام الصيف، حيث تكون الشمس رمحاً على اليافوخ، وأيامَ العاشوراء كذلك، فمشاهد اللطم بالسلاسل والتطبير والاصوات التحريضية لا طاقة لي بها، و في الرمضان أيضاً حين يتحول الشهر المبارك الى مأتم طويل، ولا يأخذنَّ أحدٌ بناصيتي في ذلك، فأنا مولود الاول من آذار، مخلوقٌ مائيٌّ، وبرجي الحوت، وصنيعة أنهار ونخل واشجار وافياء. .
لذا، لا طاقة لروحي بمعاينة ما لا تحب، وسماع ما تكره، ورفقة المتشددين واللصوص والكذابين وأصحاب المواقف الحقيرة ومدّعي التديّن. أشهدُ اللهَ أن يوم الغدير هو يوم كبير في التأريخ، وأنَّ الاحتفال يليق به، فصاحبه من أشراف العرب، وهو أصدق الناس، وأجلّهم نسباً وموقفاً، وهو مثال في الوفاء والكرم والشجاعة والفصاحة ولست بوارد تعداد صفاته، فأنا أدنى من أنْ آتي بقلمي المتواضع على بعض من صفَات رجلٍ كعلي بن ابي طالب، ولو أنَّ الامم المتحدة أقرّت بجعل يومه عيداً لما وفتّه.. لكنْ، هل عرفنا كيف نحتفل به؟ وهل نحن قمينون بإحياء يوم كهذا؟ ترى، لماذا يكون الضحيجُ والبكاء واللطم مادةً الاحتفال في مناسباتنا؟ ألم نقل عنه بأنه يوم عيد؟ ألا نملك وسيلةً غيرها؟ وإلى متى تتحول المناسبات الدينية الى سياط لجلد الذات، وبندقيةً لتهديد للسلم الاهلي، ومنفذاً لتنفيس الأحقاد والضغائن، وغير ذلك مما تنتفخ به الاوداج! ألأ نجد في الموسيقى شيئاً للإحتفال؟ المصيبة أنَّ جهات سياسية- دينية تعمل على تكريس مشهد البكاء هذا! وإلا لماذا استعجل باعة السلاسل والسكاكين والبيارق وأدوات اللطم والبكاء العاشورائية وعرضوا بضاعتهم في اليوم الثاني من العيد الأضحى؟ هناك عشرون يوماً تفصلنا عن الاول من المحرم، فعلام يقتص هؤلاء من الناس أيام أعيادهم؟ بفعل سياسيٍّ أكثر منه ديني وطقسي تحولت طبيعة الانسان العربي الشيعي على وجه التحديد الى النكد، وتقلصت أيام سعادته، ذلك لأنه أدمن الحزن، واستمرأ الدمع، وتحللت طاقته الايجابية، فلم يعد يأبه بالسماء إن سقط عليه، أو انخسفت الارض به! وهذا أمر مخيف، تسهم الحكومات المتعاقبة بتكريسه. كنتُ أريد أنْ أذهب بحديثي الى القول: ماذا لو أنَّنا شاهدنا عملاً موسيقياً، أوبرالياً، غنائياً، حياتياً وأشددُّ على قولي حياتياً عن حياة وسيرة الامام علي وعيد الغدير، بعيداً عن الحروب والمعارك التي خاضها وحياته الدرامية التي نعرفها، والتي يستثمرها البعض في اِستفزاز الآخر، وتحدثنا عن عليّ الفتى المضحّي، الذي نام في فراش ابن عمه، وعن علي صاحب الموقف الانساني، المتصدق بما بين يديه والبليغ والمتحدث والمتسامح مع الغير، والانسان الذي يعترف بفضله العدو قبل الصديق.. مثل الاعمال الموسيقية، إنْ صيغت بعقل انساني، وأنتجت باحتراف عالٍ، وقدمت على مسرح مختصّ.. ستكون خير ما يمكن ان نسمعه ونشاهده ونحتفل به في يوم الموسيقى هذا.