لطفية الدليمي
أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ أسماء مخصوصة أحرصُ على قراءة منشوراتها وكلّ التعليقات الخاصة بها على الفيسبوك، ومن هذه الاسماء الدكتور سيّار الجميل.
أعاد الدكتور الجميل في منشور حديث له التذكير بأعمال الراحل الدكتور محمد عابد الجابري وبخاصة في موضوعته الاهم: العقل العربي الذي صنّف فيه كتباً عدّة. يرى الدكتور الجميل أنّ اختصاص الجابري للعقل العربي بهذا التوصيف هو أقرب لخطيئة معرفية. العقل -كوظيفة وميكانيزمات عمل- هو عقل واحد حتى ليمكن القول"ليس لعقلٍ أفضليةٌ على عقل إلا بما يصنع منه المرء بجهده الخاص ومثابرته الدؤوبة وشغفه الجموح". الحقُّ أنّ المرء منّا ليفرحُ كثيراً إذ يرى حجم التعليقات الجادة على مثل هذه المنشورات الثرية، وهذا أمرٌ يفنّدُ دعوى أنّ منصات التواصل الاجتماعي ما خُلِقَتْ إلا للهو الكلام وعابثه. من يشأ فليعبث، ومن يشأ يمكنه تحويل الفيسبوك منصة معرفية ربما أكثر ثراء من كتب عديدة بسبب الطبيعة التفاعلية المباشرة لها.
أراني أميل إلى رأي الدكتور الجميل. أشاعت آراء الراحل الجابري الكثير من التعليقات والمساءلات وقت نشرها. تتجوهر المسألة الخلافية في موضوعة العقل Mind. شاعت قناعة آنذاك(ولعلّها تخريجةٌ من مُحبي الجابري والمنافحين عنه بدافع عاطفي أو آيديولوجي) أنّ سوء فهم يكمن في مفهوم العقل لدى الجابري ينشأ من تأويل الحمولة الاستعارية Metaphorical لهذه المفردة وجرّها لتكون بديلاً عن العقلية Mindset أو الذهنية Mentality. بكلمات أخرى: كان يكفي لحلّ الاشكالية أن يسمّي الجابري عناوين كتبه (العقلية العربية….) أو (الذهنية العربية….). لا أظنّ أنّ الجابري أخطأ في الحمولة الاستعارية. ربما لو تكلّم عن العقل العربي الجمعي لكان هذا تيسيراً لقبول التفسير الذي يتعكّز على الاستعارة؛ لكنّ تمييزه بين عقل عربي مشرقي ومغاربي بمواصفات محدّدة لكلّ منهما يوهنُ المقاربة الاستعارية ويدفعنا للميل بأنّ الجابري كان يكتب وهو يعرف تماماً ما يفعل وبخاصة أنه كان سياسياً ومتحزّباً يعرف أنّ الكلمات تُحسبُ عليه. ثمّ أنّ الجابري أكاديمي قضى شطراً من حياته في الاروقة الجامعية، ويعرف أنّ عناوين الكتب لا تحتمل الملاعبات الاستعارية بل يجب أن تكون واضحة مباشرة حتى لو تلبّست ببعض التجميل البلاغي. أظنّ أنّ الراحل جورج طرابيشي أفاض في مساءلة أطروحة الجابري بكيفية دقيقة وصارمة، وكذا فعل الجميل في كتابه المهم (الرؤية المختلفة).
توصيف العقل بمواصفات قومية (عقل عربي، عقل ألماني، عقل ياباني،،،،) أو جغرافي(عقل أوربي، عقل جنوب شرق آسيوي، عقل إسكندنافي،،،،) مسألة خطيرة؛إذ هي في الغالب تنحو نحو الرفعة أو الضعة بحسب آراء الكُتّاب -الصريحة أو المضمرة- لأنها تنطوي على مفاخرة قومية أو تحقير قومي. يمكن أن نصف العقول بحسب ميكانيزم عملها ومقاربتها للوجود البشري فنقول: عقل شعري، عقل تحليلي، عقل رياضياتي، عقل هندسي،،،. هذا أمرٌ ممكن؛ لكنّما في كلّ الاحوال من الخطل الشنيع وسمُ العقل بخصيصة جمعية. العقل أقرب للعبة ميكانو شديدة التعقيد، لها إمكانات لانهائية، والفرد وحده هو مَنْ يستطيع الاتيان بأفاعيل أقرب إلى السحر بعقله مستعيناً بخبراته وثقافته وجهده. فردانية العقل هي جوهر كلّ التطور البشري وليس خواصه الجمعية؛ وإلا لما رأينا كثرة من العباقرة في بيئة فقيرة مثل الهند أو باكستان.
نعم، العقل البشري عقل واحد في خواصه البيولوجية والممكنات الرائعة المخبوءة فيه؛ لكنّ السياسات التعليمية والاخلاقيات السائدة في مجتمع ما وكذلك المستوى الاقتصادي ونمط التفكير (عقلاني علمي أم تلفيقي قانع بالدجل والشعوذة) كلها عوامل يمكن أن تغيّر ميكانيزمات التفاعل بين الخلايا الدماغية، وعلى هذا الاساس يكتفي البعض باستغلال ميكانو أدمغتهم في تشكيل هياكل بسيطة؛ في حين يتفنن آخرون في تشكيل هياكل شديدة التعقيد ليست مذكورة في (كتالوغ) الصانع.
كلٌّ منّا نتاجُ عقله المحفّز بالشغف والمثابرة، وكلّ عقل يجب أن يُنسّب إلى صاحبه بدلاً من تنسيبه إلى قومية أو جغرافية محدّدة، وهذا الامر يستلزم تعظيم مسؤوليتنا تجاه أنفسنا بعد أن صارت المعرفة المجانية بكل متفرعاتها الهائلة متاحة لنا في العالم الرقمي.