علي المدن
لا أحد يعلم على وجه الدقة انطباعات العراقيين حول مقترح تطييف قانون أحوالهم الشخصية، وأنا شخصيا لم أقرأ حتى الآن أي أستطلاع للرأي العام حول هذا الموضوع المعقد، وعليه؛ ستبقى مسألة مقاومتهم لهذا التعديل محل شك كبير.
قد تكون المسألة مجرد اختلاف في تقدير المخاطر، وبالتالي يمكن - بحسب وجهة نظر أخرى - التعايش معها ولن تؤثر كثيرا على تماسك الدولة ونظامها السياسي والقضائي والاجتماعي. ولكن حتى لو كانت مخاوفي مبالغا فيها فإن متابعتي لموضوع مقترح تطييف قانون الأحوال الشخصية تدفعني للتذكير ببعض الأفكار التي أظن - فيما لو قُدّر أن دعاة هذا المشروع عالي الخطورة توقفوا عندها - أن تساعد على مزيد من التفكير المعمق في هذا الموضوع قبل الإقدام السريع على تنفيذه. من هنا، فإنني أضع بعض هذه الأفكار أمام القراء على أمل أن تكون لي فرصة قادمة أكبر لتفصيل الحديث فيها:
الفكرة الأولى: تعديل وليس تطييف.
تطييف قانون الأحوال الشخصية حق دستوري، ولكن ليس كل (حق) يجب أن يتحول إلى واقع، لأن الحقوق مقرونة بالمصلحة، فقد يكون الشيء من حقك، ولكن ليس من الضروري أن يكون من مصلحتك. وخير دليل على ذلك موضوع (الأقلمة)، فالدستور اعترف بحق كل ثلاث محافظات أن تشكل إقليما، فهل من الواجب أن نحوّل هذا الحق الدستوري إلى واقع، ونقسّم العراق إلى خمسة أقاليم؟ لا طبعا، إلا إذا كنا لا نفكر بمصلحة العراق كدولة أو مصلحة العراقيين كشعب. ونفس الكلام يقال عن تطييف قانون الأحوال الشخصية.
الفكرة الثانية: القانون الحالي ليس له علاقة بمشاكل الأسرة العراقية.
البعض يريد أن يوحي أن قانون الأحوال الشخصية الحالي هو سبب تزايد حالات الطلاق والمشاكل داخل الأسرة العراقية. هذا استنتاج غير سليم! لأن هذا القانون قديم والمشاكل حديثة، لم تظهر إلا في السنوات المتأخرة، فلو كان القانون هو السبب لكان الواجب أن تكون المشاكل قديمة أيضا. ولو كان القانون لوحده كافيا لرفع أو تخفيف تلك المشاكل لكان حال الأسرة الإيرانية التي تعمل بقانونٍ أغلب فقراته من الفقه الجعفري أفضل حالا منا في العراق، في حين أن العكس هو الصحيح!!! إذ الأسرة الإيرانية تعاني من حالات طلاق ومشاكل أخرى أكثر وأوسع مما تعانيه الأسرة في العراق (نسبة الطلاق في إيران ٥٠ ٪، والعزوف عن الزواج في القرى ٧٤ ٪، والعزوف العام ٢٥ ٪، وعدد زيجات الفتيات الأقل عمرا من ١٥ سنة بلغت ١٨٤ ألفاً في الفترة ٢٠١٧ - ٢٠٢٣.. ناهيكم عن احصائيات أخرى أكثر خطورة)، فهل يصح أن نقول إن الفقه الجعفري هو سبب تلك الحالات والمشاكل؟! لا طبعا، لا يصح ذلك، فلا القانون عندنا هو السبب ولا القانون في ايران هو السبب، بل هذه المشاكل لها أسباب أخرى تحتاج إلى دراسة مستقلة ومستأنفة.
الفكرة الثالثة: المشرع العراقي مسلم والقانون العراقي ليس وضعيا
من الدعاوى الغريبة إدعاء البعض أن القانون العراقي قانون وضعي، في إشارة من هذا البعض إلى أن القانون مناقض للدين بنحو كامل، وأن من وضعه شيوعيون!!! هكذا بلمحة بصر صار عبدالكريم قاسم (كافرا)! مع أن كل عارف بالفقه، حتى ولو كان مبتدئا، يعلم أن القانون العراقي قانون إسلامي، مستمد من فقه المسلمين، وواضعه مسلم، وكان هذا المسلم الذي اسمه (عبدالكريم قاسم) يريد جمع العراقيين على قانون واحد، قانون عصري حديث، يلائم مصلحة الأسرة العراقية في هذا الزمان، وهو (أعني القانون وواضعه) لم يكن يتحرك بدوافع طائفية إطلاقا (في أهم مسألة خلافية في الإرث، ميراث البنت، اختار القانون القديم أن يعمل وفق مذهب الجعفرية). نعم، هو اجتهد في اختياره، وقد يكون اختياره محل نظر، ويتطلب مراجعة وتطويرا، ولكن هذا موضوع واتهامه وتسقيطه موضوع آخر. علماً أنه حتى في تلك القضايا الإشكالية التي اجتهد فيها (كقضية المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى) كانت محاولة منه لتقديم "فهم زمني معاصر" للأية القرانية، تماما كما نفعل نحن اليوم حين نجمّد العمل بحكم قطع يد السارق، مع أن هذا الحكم منصوص عليه في الايات القرانية أيضا.
الفكرة الرابعة: الحكم بما أنزل الله أو الحكم بما ورد في الدستور؟
في لقاء متلفز ظهر أحد المعممين وهو يتنمر على مقدم البرنامج بتلاوة الأية القرانية (ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون). كانت محاولة منه لإحراج المقدِّم الذي كان مربكا ومتلعثما لا يعرف ما يجيب به على هذا المنطق الديني القمعي. هدف المعمم كان اعتبار قانون الأحوال الشخصية تطبيقا لهذه الآية، إنه حكم بغير ما أنزل الله ومن يعمل به فهو كافر. نسي هذا المتحدث أننا في العراق اتفقنا كشعب أن يكون مرجعنا الدستور، وليس النصوص التأسيسية المقدسة التي يتلاعب بها المتأوِّلون. فائدة الدستور - من بين فوائد عديدة - أنه يحوّل المبادئ العامة والنصوص العليا إلى قوانين، ويمنع الانفلات والتسيّب وتمييع الحقوق عبر الاجتهادات اللامنضبطة. إن ما يحكم العراقيين هو مبدأ (من يحكم بخلاف الثابت من أحكام الإسلام فأولئك هم المخالفون للدستور). أما الايات القرانية الشريفة فهي خارجة عن المنازعات والمزايدات.
الفكرة الخامسة: مبدأ العمل بالمشهور يخالف الدستور
جاء في مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية أن وضع القوانين في المدونة الطائفية المزمع كتابتها يخضع لمبدأ (المشهور)، أي الحكم الفقهي الأكثر تداولاً في فقه كل طائفة. وهذا المبدأ لا يعمل به أي قانون أحوال شخصية في أي دولة إسلامية!!! بل جميع الدول الإسلامية تقول إن المبدأ هو اختيار (الأصلح والأنفع)، سواء أكان الاجتهاد قديما أو حديثا، ولا قيمة إطلاقا للرأي المشهور القديم لأنه ليس معلوما أن يكون الأصلح والأنفع لنا اليوم، بل إن اختيار (المشهور) يتنافى مع فتح باب الاجتهاد وتطوير العملية التشريعية.
وليس هذا الاعتراض هو الوحيد على فساد هذا المعيار، بل هذا المعيار (العمل بالرأي الفقهي المشهور) يخالف الدستور العراقي الذي لم يشترط ذلك بل اشترط (أن لا يسن قانون يخالف الثابت في أحكام الإسلام)، ولم يحدد ذلك بالمشهور أو غير المشهور، فـ(التحديد) مخالفة صريحة للدستور العراقي.
الفكرة السادسة: المجلس العلمي في مقابل المحكمة الاتحادية العليا
من الأشياء الملفتة في مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية أنه منح المجلس العلمي صلاحيات واسعة، من اهمها أنه يفتي فيما لا نص عليه في المدونة المزمع كتابتها، إما بالمشهور وإما بالعودة إلى رأي المرجع المقيم في النجف والذي يقلده أكثر شيعة العراق. وهذا مجلس لا احد يعرف عنه شيئا، كما لا يعرف أحد شيئا عن أعضائه ومستوياتهم الفكرية، بل (وهذا أخطر من الجميع) سيكون هذا المجلس ندا للمحكمة الاتحادية العليا التي من وظيفتها البت بدستورية القوانين. إننا على وشك خلق مؤسسة تملك كل عناصر القوة ولا أحد يمكنه مواجهتها، حتى ولو كان بحجم المحكمة الاتحادية العليا.
الفكرة السابعة: واضع القانون يجب أن يكون عراقيا.
لعل العراق هو الدولة الوحيدة التي لن تتأكد بعد اليوم من جنسية واضع قانون الأحوال الشخصية فيها هل هو عراقي أو لا!!! لأن مقترح التعديل يكتفي بالقول إن المعتمد في كل قانون لم نتوصل فيه إلى تحديد الرأي الفقهي المشهور هو (رأي المرجع الديني المقيم في النجف والذي يقلده أكثر الشيعة في العراق) ولا حديث عن ضرورة أن يكون هذا المرجع عراقيا!!! أما لماذا (المقيم في النجف) وليس مثلا كربلاء أو بغداد أو سامراء أو حتى البصرة فلا أحد يعلم البتة!!!
الفكرة الثامنة: المرجع الأكثر تقليدا "مشكلة أعقد" من الكتلة النيابة الاكثر عددا
مشكلة كبيرة تنتظر العراقيين بعد إقرار مقترح التعديل تشبه من وجوه كثيرة ما جرى مع مسألة الكتلة النيابة الأكثر عددا الواردة في الدستور، وهذه المشكلة هي (تعيين المرجع الديني الذي لديه أكثر عدد من المقلدين الشيعة في العراق). لقد تحولت الكتلة النيابية الأكثر عددا إلى مشكلة مزمنة بعد كل انتخابات، ومع تشكيل أي حكومة. وحتى بعد تفسيرها من قبل المحكمة الاتحادية العليا بأن المقصود بها هو (الكتلة المشكّلة في البرلمان) استمرت الاعتراضات من قبل بعض الأطراف السياسية مطالبة المحكمة بالعدول عن تفسيرها هذا، بل وحمّلتها مسؤولية ضياع أصوات الناخبين وتأخير تشكيل الحكومات وفتح باب المساومات بين الكتل السياسية. قضية (المرجع الأكثر عددا من المقلدين لدى شيعة العراق) ستكون أكثر إشكالية من ذلك، إذ لا وجود لمؤسسة مختصة تحسب أعداد المقلدين كما هو الحال مع (المفوضية العليا للانتخابات) التي تحسب أعداد أصوات الناخبين في مسألة الكتلة النيابية الأكثر عددا، فكيف يتم التأكد من أن (زيدا) وليس (عمرو) هو (الأكثر) من بين المراجع الدينيين المرشحين في عدد المقلدين؟ وكيف يمكن التأكد من عدم حصول تلاعب سياسي، ضمن أجندة لا يعرفها أحد، بترشيح ودعم هذا المرجع على حساب المرجع الآخر؟ إن هذه الفقرة من مقترح التعديل ستقحم المرجعية في دوامة الخلافات السياسية وصراعات السياسيين بنحو لا يعرف التاريخ المرجعي له مثيلا.
الفكرة التاسعة: "القضاء" شأن مدني، شرعيته مستمدة "من ولاية الأمة على نفسها
إن البعض يُصور مسألة الزواج وكأنها "رابطة دينية" على الطريقة المسيحية (زواج كاثوليكي)، لا يعقدها ولا يزيلها إلا رجل له "صلاحيات كهنوتية"، في حين أن الإسلام لا يقول بذلك، فرابطة الزواج في الإسلام "رابطة مدنية"، كما أن الإسلام لا يعرف "مهمّات كهنوتية" خاصة برجال الدين. وعليه، فمن يثقّف الناس على هذه النظرية إنما يروّج - دون أن يعلم - لثقافة دينية لا يعرفها الإسلام.
لقد وجدتُ أن أكبر الطعون على القانون الساري المفعول تنصب على مسألة حكم القاضي بالتفريق بين الزوجين. يقول هؤلاء المعترضون: إن التفريق من صلاحيات الحاكم الشرعي، أي الفقيه ( = المجتهد)، وليس من صلاحيات القاضي أيّاً كان. وبما أن هذا القاضي ليس مجتهدا، ولا مأذونا له بممارسة المهنة من المجتهد، فإن حكمه بالتفريق باطل وغير شرعي. وما لا يعرفه كثيرون مما يرعبهم هذا الاعتراض (يرعبهم الاعتراض لأن معناه بقاء الزوجة على ذمة الزوج السابق، وبالتالي يكون زواجها الثاني، وكل ما يرافقه من علاقات جنسية وانجاب وميراث وغير ذلك، باطلا ومحرما) أن هذه المسألة "اجتهادية" بحتة، وليست من "الضروريات" في الإسلام، ولا حتى في المذهب الجعفري. وهي أيضا "تاريخية" بحتة، نشأت في أجواء المقاطعة الدينية والسياسية التي غذتها مواقف دينية في زمن الصراع عل إمامة المسلمين.
إننا نعيش اليوم في عالم انقطعت فيه النبوة والإمامة والخلافة، ولا نعرف تلك السلطات التي عرفها العالم القديم باسم هذه العناوين الكبيرة السابقة، بل إن الدستور العراقي ينص على أن (الشعب مصدر السلطات وشرعيتها)، لذا فإن السؤال الحاسم في موضوع شرعية عمل القضاة في الدولة غير الدينية إنما يتعلق بنظرتنا للشأن القضائي: فهل القضاء "شأن مدني" ينشأ من حاجة بشرية هي عبارة عن حفظ النظام الاجتماعي وتحقيق العدل والاستقرار فيه أو أنه "شأن ديني" يفتقر إلى تخويل من سلطة دينية تمنحه الشرعية؟ إن الأساس الفكري الذي يعتمده أولئك الذين يطعنون في صلاحيات القضاة في الدولة غير الدينية (وبنحو خاص في مسألة التفريق بين الأزواج) هو ايمانهم بأن القضاء "شأن ديني" يختص به "المجتهد" حصرا، سواء أكان هذا المجتهد منصوبا كحاكم أعلى للدولة (وهذه نظرية ولاية الفقيه) يتولى بحكم منصبه تعيين القضاة ومنْحِهم الشرعية أو لم يكن كذلك (أي لم يكن منصوبا كحاكم أعلى للدولة ولكن القضاء يبقى من حقوقه الحصرية). فما لم يكن الشخص مجتهدا، أو على الأقل مخوَّلا من مجتهد، فإن توليه للقضاء عمل باطل، كما أن حكمه في القضايا المرفوعة إليه حكمٌ فاقد للشرعية وبعِداد الملغي. إن هذا الأساس الفكري المخالف للمادة الخامسة من الدستور التي تنص على أن (الشعب مصدر السلطات وشرعيتها) إشكالي ومحل خلاف بين مفكري المسلمين، ومن المفارقات التي لم ينتبه لها هؤلاء المعترضون، خصوصا وأن بعضهم يدعي تمثيل المرجعية المعاصرة، أن السيد السيستاني ينتمي إلى الاتجاه الفكري الذي يؤمن بأن القضاء شأن مدني، ولد من الاحتياجات البشرية في حفظ النظام، كما وأنه يعتقد أن المهم في منصب القضاء هو "معرفة القاضي بالقوانين" (وليس حصريا أن يكون مجتهدا)، و"الحكم بالقسط والعدل" في القضايا المترافع فيها إليه. أما شرعية ممارسته للمهنة، فهي إنما تكون من تخويل الشعب وانتخابهم له، بنحو مباشر أو بتوسط المؤسسات الموجودة في هيكلية كل نظام (للمهتمين يمكن مراجعة كتاب: الاجتهاد والتقليد، تقريرات هاشم الهاشمي، البحث الثاني من الفصل الرابع).
الفكرة العاشرة: فكّر كمواطن وليس كأقلية
اسمع حجج المدافعين عن تطييف قانون الأحوال الشخصية وهم يقيسون أنفسهم بالأقليات الدينية في بعض البلدان فأصاب بالعجب من منطقهم، وأتساءل في نفسي: كيف نُقنع من يفكّر بعقل صغير يختص بطائفة أن يتصرف بعقل كبير ينفتح على وطن بأكمله؟ كيف ندرب من كان منطويا تاريخيا على نفسه كمجموعة دينية ونجعل منه مسؤولا عن إدارة مجتمع متنوعا وطنيا؟ يبدو الأمر صعبا على البعض، لأنه بحكم كونه منغلقا على بعض القناعات الفقهية يروّج لفكرة الانسداد الفقهي، أي عجز العقل الاجتهادي الفقهي عن وضع حلول متعالية على الاختلافات المذهبية! وهذا قصور كبير في ادراك الامكانات الهائلة في هذا العقل، بل إن هذه الرؤية (القياس على أحوال الأقليات الدينية في بعض البلدان المجاورة) تستلهم من قصور تجربة تلك الأقليات في تقديم مطالبها بمستوى وطني فتجعل منه أنموذجا لما يجب علينا فعله. إن قصور الجعفرية في الكويت أو البحرين أو السعودية، بل وتقصير دولهم، في مجال الارتقاء بمنظومتهم التشريعية الوطنية الموحدة، لا يفترض أن يتحول إلى حافز لدى البعض نحو وضع حواجز بين العراقيين تفصل بعضهم عن بعض. اللهم إلا إذا كانت تلك الحواجز جزءا من مشروع مخطط له، حينها يكون من الواجب بمنطق الشفافية التصريح بهذا المشروع وليس الاحتماء بتجارب تاريخية غير ناضجة.
جميع التعليقات 1
دكتور ماهر سلمان
منذ 4 شهور
مقالة تستحق وتصلح لمناقشةالافكار الواردة فيها باعتبارها من اساسيات تشريع هكذا قوانين خطيرة تمس الهوية الوطنية العراقية