TOP

جريدة المدى > محليات > كبار السماوة يسترجعون ذكريات «الفرات» النظيف ويأسفون على تلوثه

كبار السماوة يسترجعون ذكريات «الفرات» النظيف ويأسفون على تلوثه

نشر في: 15 أكتوبر, 2024: 12:19 ص

 المثنى/ كريم ستار

يجلس الحاج عبد الحمزة الغزاوي (78 عاماً) يومياً على ضفاف نهر الفرات في مدينة السماوة، مسترجعاً ذكريات الماضي عندما كان النهر نظيفاً ومفعماً بالحياة. اليوم، يشهد النهر تلوثاً متزايداً بالنفايات ومياه الصرف الصحي، ما يثير حزن واستياء السكان المحليين الذين عاشوا زمن النهر الصافي.
ويقول الحاج عبد الحمزة لـ(المدى): «يومياً أجلس هنا ثم أسير ذهاباً وإياباً على طول النهر، والحرقة والاشتياق لذلك الزمن لا تفارقني طرفة عين، وأنا أتذكر جيداً كيف كانت الزراعة مزدهرة من أشجار النخيل والخضروات بأنواعها المختلفة المزروعة على طول ضفاف النهر نتيجة توفر تربة ممتازة صالحة للزراعة وخالية من التلوث والمشاكل البيئية والبشرية في عصرنا الحالي. حتى كنا سابقاً في بعض الأحيان نشرب من مياه النهر مباشرة دون الإصابة بالأمراض أو مراجعة الطبيب إلا عندما كبرنا خلال العقدين الأخيرين».
ويؤكد: «هذا النهر سابقاً كان نظيفاً للغاية ومملوءاً بالمياه الكافية إلى حد الفيضان ودخوله بيوتنا في منطقة الغربي المجاورة للنهر مرات عديدة. ومن شدة نقاوة المياه وصفائها كنا ذات مرة في عمر الشباب وسط النهر نصطاد الأسماك، فإذا بها تقفز فوق رؤوسنا من جانب إلى آخر وكأننا في دولة أوروبية. وحتى عند أكل الأسماك سابقاً كان لها طعم مغاير عما هي عليه الآن بسبب عدم احتوائها على مواد سامة بفعل الأوساخ التي يحملها النهر اليوم».
وليس بعيداً عن الغزاوي سوى أمتار قليلة، نجد الحاج رحمن (60 عاماً)، أحد ساكني منطقة الغربي الواقعة على ضفاف الفرات، الذي ولد وترعرع بجانب النهر وشرب من مائه منذ الولادة وعاصره لحقب مختلفة، لكنه لم يرَ يوماً أسوأ من وضع نهر الجنة الآن بحسب وصفه، حيث منسوب المياه الطبيعية المنخفض وزيادة مياه المجاري والمخلفات من الأحياء القريبة الملقاة في النهر.
ويقول خلال حديثه لـ(المدى): «المفروض من دائرة الري في المحافظة أن تقوم بكري النهر وتنظيفه من القصب والبردي والطحالب والنفايات بصورة مستمرة ودورية ليظهر بصورة جميلة تليق بالعوائل السماوية، إضافة إلى محاسبة دائرة المجاري لأنها تقوم برمي مياه المجاري الآسنة والثقيلة في النهر عن طريق أنبوب كبير واضح للعيان، خصوصاً في مناطق "عجد دبعن" و"الشرجي" وغيرها، وهو أمر خطير جداً».
ويضيف: «إن مياه النهر كانت في زمن النظام السابق مرتفعة إلى ستة أمتار عما هي عليه الآن وخالية من أي ملوثات مضرة بالإنسان، وكانت نهايات ضفاف النهر من جهة الماء مبنية بالطابوق وتحتوي على "المسنايات" بالحجر والشريعة. أما حالياً فقد تغير كل شيء وأصبح النهر عبارة عن حاوية نفايات للحلاقين وأصحاب الكوفيات الموجودة على امتداد كورنيش الفرات بالإضافة إلى المواطنين الساكنين بالقرب منه».

تفاقم أزمة المياه والتلوث
وبعد عقدين من الزمن خاضت البلاد فيها أزمات كثيرة كانت كفيلة بتدمير أغلب بناها التحتية، تواجه اليوم مشكلة شبح الجفاف الذي يؤرق مضجع أكثر من 40 مليون فرد عراقي، حيث يحصل نحو نصف سكان العراق فقط على خدمات مياه صالحة للشرب، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة. فالتغيّرات المناخية والخلافات السياسية المتعلقة بتوزيع حصص المياه بين البلاد ودول الجوار ساهمت في شحها، والتي وإن وجدت تكون ملوثة توازياً مع انخفاض مناسيب سر الحياة.
وتؤكد وزارة الموارد المائية في تصريحات صحفية سابقة أن غالبية المؤسسات الحكومية تساهم في تلوث مياه الأنهار، من بينها دوائر المجاري التي تقوم بإلقاء كميات كبيرة من مياه المجاري في نهري دجلة والفرات دون أن تمرّ بمعالجة تامة أو بعد معالجة بسيطة، إضافة إلى أن أغلب المستشفيات القريبة من الأنهار تقوم بإلقاء فضلاتها وتصريف مياه الصرف الصحي مباشرة فيها، وهذا أمر خطير وكارثي. كذلك تسبّب المنشآت الصناعية بتلّوث المياه، بينها مصانع مواد بتروكيميائية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى الأنشطة الزراعية التي قد تحتوي على سموم مرتبطة بالسماد.
ويتألم الناشط البيئي لطيف أدبيس، وهو مقيم في الخارج لكنه يتردد بين فترة وأخرى لزيارة السماوة، خلال حديثه لـ(المدى): «إن نهر الفرات عبارة عن جوهرة في سوق فحامة ولا تعرف الحكومة قيمة هذا النهر المعجزة الربانية. ففي الخارج عند سؤال أحدهم لي من أي بلد! فأجيبهم من العراق، لكن إن تعذر عليهم معرفة موطني فأجيبهم؛ أنا من بلاد الرافدين، بلاد نهري دجلة والفرات، فمباشرة يبتسم ويلقي عليّ التحية وذلك لأهمية النهر المذكور في الكتب السماوية. إذ هناك تعمد واضح في قتل النهر برمي النفايات على طوله في مشهد مخزٍ ومروع».
ويضيف: «لقد قمنا بحملات لتنظيف النهر قبل شهر، لكن سرعان ما انتهينا حتى تكررت المشكلة مرة أخرى بسبب قلة إمكانياتنا وضعف الدعم المخصص لمنظمات المجتمع المدني. فمهمة العناية بالنهر تقع على عاتق الحكومة، لكن للأسف لا توجد لديها حلول جذرية واهتمام حقيقي بالموضوع، حيث ترى عند تجوالك رمي أنقاض البناء والمواد الخاصة بإنشاء الجسور على ضفاف الفرات ووسطه».
ويحذر: «من تفاقم المشاكل الصحية وانتشار الأمراض والأوبئة بين الناس، لا سيما في مناطق القرى والأرياف مثل أمراض الكلى والمغص المعوي والإسهال الحاد والكوليرا، باعتبار أن مصدر مياهنا الوحيد من الفرات. حتى إن بعض الكائنات الحية التي تعيش في النهر مثل الأسماك الفريدة من نوعها تجدها قد ماتت بفعل التسمم الحاصل جراء التلوث، والمفترض أن تكون هناك شركات عالمية متخصصة لتنظيف النهر وليس أدوات تنظيف بسيطة مثل "الكرك" و"القزمة" وغيرها».

تأثير التلوث على الثروة السمكية
تلوث مياه الفرات يلقي بظلاله السلبية على الثروة السمكية، حيث تناقص عددها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، كما يشرح السباح والصياد عماد (50 عاماً) الذي أتى إلينا راكباً دراجته الهوائية من بيته في منطقة بساتين الشرقي: «أنا بهذا العمر وترى جسمي رياضياً ومتناسقاً وذلك بفعل ممارسة رياضة السباحة يومياً أثناء صيد الأسماك في تسعينيات القرن الماضي عندما كان النهر تتلاطم أمواجه بين الضفتين إلى حد غرق مساند الجسر الكونكريتي. أما حالياً فلقد انتهى كل شيء وأصبحت ذكريات فقط».
ويردف: «كانت هنا أجود أنواع الأسماك مثل الكطان والبن والحمري والروبيان قبل أن يأتي الصيد الجائر الذين يستخدمون فيه الكهرباء ليطلقوا رصاصة الرحمة على الأحياء المائية بعد أن قتلها التلوث البشري، متبقية بعض الأسماك البسيطة مثل أبو الزريدة. كذلك قامت بعض الجهات المجهولة برمي أسماك تسمى "أبو جبيج" أو "الشانك"، وظيفتها قتل الأسماك المحلية المعروفة في الأنهار العراقية. وكنا جميعاً سباحين ماهرين حتى نسائنا وأطفالنا بسبب قربنا من الفرات، خصوصاً بعد إنشاء هذا الكورنيش في ثمانينيات القرن الماضي والذي يعتبر منتجعاً سياحياً يخدم المواطن السماوي».

مشروع كورنيش السماوة الجديد
وتباشر الحكومة المحلية الآن بتنفيذ مشروع كورنيش السماوة الجديد، والذي يمتد من نقابة الأطباء حتى جسر بربوتي على ضفاف نهر الفرات من جهة الصوب الكبير، علماً أن النهر يشق المدينة إلى نصفين: صوب صغير يتمثل بمنطقة القشلة وآخر كبير يتمثل بمركز المدينة. حيث سيساهم هذا المشروع في توسعة مركز المدينة وإيجاد متنفس ترفيهي لأبناء المثنى، ويتضمن تكسية حجرية وتهذيب جوانب الفرات، وتأهيل وتبليط الطريق الممتد على طول النهر.
وتقول مديرة دائرة المهندس المقيم في مشروع كورنيش السماوة الجديد، شيماء مزهر، لـ(المدى): «طول الكورنيش المزمع إنشاؤه 3.5 كيلومترات بشارع عرضه 7.5 أمتار للاتجاهين ذهاباً وإياباً، أما الرصيف من جهة النهر فيكون بعرض 12 متراً والجهة الأخرى بعرض مترين، والجزرة الوسطية تكون بعرض متر واحد، وحالياً نحن في المراحل الأولية المتمثلة بالأعمال الترابية».
وتضيف: «منذ ثمانية أشهر ونحن منشغلون بنقل الأنقاض من كتف النهر، وسنستبدلها بتربة نظيفة كمرحلة أولية بمعدل 12 إلى 15 سيارة حمل تنقل أطنان النفايات من الساعة 8 صباحاً إلى الرابعة عصراً يومياً، فهي ظاهرة مكلفة للدولة وخسرنا أموالاً طائلة جراء هذا الأمر، حتى اضطررنا في بعض المقاطع من الشارع إلى استبدالها نهائياً بعد حفرها إلى أن وصلنا إلى الأرض الطبيعية المدفونة بالنفايات والأنقاض، لتبدأ بعدها مرحلة التكسية الحجرية ومن ثم إقامة الرصيف وتبليط الشوارع».
وتؤكد: «إن الكلفة المالية للمشروع قدرها سبعة مليارات وتسعمائة واثنان وثمانون مليون دينار عراقي ضمن مدة إنجاز تصل إلى ألف يوم. وبعد إكمال المشروع، هناك توجه بتأثيث الكورنيش مثل المساطب والأشياء الترفيهية، لكن بحسب المخصصات المالية الآن والتي تلزمنا بعمل الأرصفة والكربستون وتبليط ومقرنص وسواقي وبنى تحتية تشمل أسساً لأعمدة الإنارة وعبارات لنقل أنابيب المياه من وإلى ضفاف النهر فقط».
وما عاد النهر العظيم عظيماً بما تحمله الكلمة من معنى، بعد أن هددت عرشه النفايات والأوساخ ورمي مياه الصرف الصحي والمخلفات الثقيلة في جوف نهر الفرات وسط مدينة السماوة، لا سيما بعد عام 2003 وهو يشكو حاله للمارة بالقرب منه. فالنهر الذي روى بلاد سومر وبابل في الأقدمين يكاد يعجز اليوم عن سقي أبناء المثنى بعد مرضه نتيجة النشاط البشري الجائر والتغير المناخي الذي أصابه دون اكتراث الجهات المسؤولة، سوى بعض الحملات التطوعية التي يقوم بها الناشطون المدنيون لتنظيفه بين فينة وأخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بغداد تسير على "خيط رفيع".. وارتياح من "رسائل عراقجي" رغم التصعيد

الزواج خارج المحاكم.. وسيلة لإخفاء الزيجات المتعددة!

غبار المشاريع المتعثرة يغطي آمال التنمية في صلاح الدين!

فنلندا تعلن إنهاء مهمتها العسكرية في العراق نهاية العام

أزمة الجفاف في ميسان تهدد بيئة المدارس وصحة التلاميذ

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الصراع يشتد على رئاسة مجلس ذي قار: هجوم مسلح تقابله دعوى قضائية

الدعاوى الكيدية ومداهمات دور المتظاهرين تشعل التظاهرات في الناصرية

لماذا تأخرت السلة الغذائية؟

العراق على موعد مع "أمطار وبرد"

الزخم المروري يخنق الكوت: مدينة غاضبة على دجلة!

مقالات ذات صلة

تحويل بحر النجف إلى صحراء: خطر على التنوع البيئي والتوازن الطبيعي
محليات

تحويل بحر النجف إلى صحراء: خطر على التنوع البيئي والتوازن الطبيعي

بغداد / خاصتواجه منطقة بحر النجف، التي تُعد من أبرز المناطق البيئية في العراق، خطرًا بيئيًا كبيرًا يتمثل في محاولات تحويلها إلى صحراء. هذه المنطقة الغنية بالتنوع البيولوجي والتاريخ الثقافي والديني، قد تتعرض لتدهور...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram