TOP

جريدة المدى > عام > هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

يرى أن المنفى صاغ مخيلته وحياته ووجوده باعتباره مصيراً محتوماً

نشر في: 14 يناير, 2025: 12:01 ص

حاوره علاء المفرجي
هاتف جنابي؛ شاعر وكاتب ومترجم للأدب البولندي إلى العربية والعربية إلى البولندية. نشأ وتعلّم في مدارس العراق، وفي سنة 1976 توجّه نحو بولندا، لإكمال دراسته، ومن ثمّ للعيش فيها. منذ ذلك التاريخ، يعيش جنابي بشكل رئيسي في بولندا. أصدر عدداً كبيراً من الدواوين الشعرية المكتوبة باللغتين العربية والبولندية، بالإضافة إلى ترجمته المستمرّة بين اللغتين، مقدّماً إلى اللغة العربية أبرز وجوه الشعر البولندي، كما قدّم الشعر العربي إلى اللغة البولندية.
قال عنه المستعرب البروفسور مارك جيكان، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة وودج بعد منحه"جائزة Transatlantyk: إن هذه الجائزة هي تمييز مهم للغاية يستحقه هاتف جنابي أكثر من أي شخص آخر". وأضاف: "أنا فخور وسعيد بأن نشاطه الشامل في الترويج للأدب والثقافة البولندية في العالم العربي قد حظي بتقدير من قبل معهد الكتاب".
حيوات، وأماكن، وأحداث، وقراءات، تقاطعت مع سنوات النشأة الأولى في الطفولة والصبا؛ أسهمت في إدراكك حرفة الشعر والأدب… حدثنا عنها بالتفصيل؟

  • كنت الابن البكر لوالدين لا يعرفان القراءة والكتابة: أم حفظت كثيرا من الشعر الشعبي ورددت معظمه على مسمعي، وأب امتهن التجارة وكان سمحا وذا مهارات في الكلام وتكوين العلاقات الاجتماعية وتسهيل القضايا المعقدة، مع حس قوي في الانتماء إلى الأرض والأصول. لم يكن في منزلنا أي كتاب باستثناء كتبي المدرسية. باقي الأخوات والإخوة (ما عدا اثنين) ولدوا ونشأوا في النجف والقسم الآخر في بغداد. ارتبط مكان الولادة أيضا بأول منفى عشته في حياتي. اضطررنا لترك تلك الأرض بسبب صراع لا علاقة لنا به، وانتقلنا إلى أقرب مدينة فكانت النجف حيث كان لأبي منزل فيها يزوره أثناء رحلاته التجارية.
    حينئذ تشكلت بداياتي الشعرية بممارسة القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والخواطر وكتابة القصص القصيرة. لم أسع إلى الشعر، لكنه هو من هبّ لنصرتي في الأوقات الحرجة. كانت قصيدة "شرهان" من أوائل نصوصي الشعرية التي كتبت في المدرسة المتوسطة. تبرز فيها شخصية معارض اختلقت اسمه وتخيلته معلقا بإحدى المراوح الآنفة الذكر، وكيف كانت روحه تسيل على صبة المسجد، ورغم ما تعرض له من تعذيب وتهشيم وحرق لإحدى ساقيه، إلا أنه لم يستسلم، والغريب أنني سمعت حكاية فلاح فيما بعد له نفس الصفات والمعاناة وقد مات تحت التعذيب بسبب انتمائه للحزب الشيوعي العراقي!
    أصبحت تلك المكتبات فاعلا في تلطيف غربتي، ملاذا روحيا ونفسيا لي ومعينا في التعويض عما فاتني من معرفة لغوية، شعرية، أدبية وفكرية. كنت أقرأ بمعدل عشر ساعات يوميا. تشكلت مراهقتي في هذا المكان وتكونت بدايات الرصانة اللغوية، ومعرفة قسط من الإيقاعات والأوزان الشعرية، والاطلاع على التراث الصوفي. مكثت ست سنوات في النجف وبعد البكلوريا- فرع الأدبي انتقلت إلى بغداد للدراسة بعد قبولي في جامعة بغداد. كان والدي يلح عليّ لدخول الكلية العسكرية، أو كلية الشرطة، أو الحقوق في أسوأ الأحوال، لكنني اتبعت طرقا عجيبة للتملص. كانت أكاديمية الفنون الجميلة هدفي الذي لم يتحقق، كما لم تتحقق غايتي الأخرى في القبول بقسم اللغة الإنكليزية، ولم يكن أمامي سوى دكتور كان اسمه علي عباس علوان كان جالسا خلف كشك من أكشاك التقديم آنذاك، شجعني على قسم اللغة العربية الذي قبلته على مضض. لم أكن أعرف أن هذا الأستاذ سيدرسني مادة العروض في السنة الأولى، وأن نازك الملائكة الشاعرة الرائدة التي قرأت لها سابقا ستكون أستاذتي في مادة الأدب الحديث، وأن د. فاضل السامرائي (وهو شقيق الشاعر عبد الرحمن طهمازي) سيكون أستاذي في النحو، وأن الشاعرة عاتكة الخزرجي أستاذتي في مادة البلاغة، ود. إبراهيم السامرائي أستاذنا ورئيسا للقسم، وأن د. عبد علي الجسماني أستاذي في علم النفس، وأن أساتذة كالدكتور مهدي المخزومي ود. علي جواد الطاهر ود. عناد غزوان، كانوا جزءا منا!
    غادرت العراق للدراسة، وآثرت عدم الرجوع أليه، وطأة الاضطهاد والقمع الذي بدأ يسوده.. وبدأت رحلتك مع المنفى لأكثر لما يقارب الخمسين عاما، ألا ترى أن المنفى يشكل شرطا في كتابة الشعر، خاصة بركون الانسان في العزلة والغربة الى ذكرياته، وليس هناك أروع من الشعر في تجسيد الذكريات؟
  • واجهت المنفى وأنا في الحادية عشرة من عمري، اقتلعت عنوة من مكان مولدي، فعشت تجربة الغربة والمكان الجديد، ثم العيش بعيدا عن حنو الوالدين في كركوك، وكان عليّ الهرب ليلا عبر زاخو بحجة رحلة صيفية إلى أوروبا. بعد اجتياز الحدود ودخول الأراضي التركية، سألني الجالس جنبي في الحافلة عن اسمي فقلت له "غريب"! طمأنني وقدم نفسه، اسمي "رؤوف مسعد" أنا من مصر! كان يعمل في مؤسسة المسرح، حاول مساعدتي وتقديم المشورة لي، وعرفت بعد سنوات بأنه هرب إلى أوروبا ولم يعد! أصبح المنفى الذي لا تحده حدود مكان إقامتي. صاغ المنفى مخيلتي وحياتي ووجودي باعتباره مصيرا محتوما. حتى أيقنت أن تكرار كلمة "المنفى" في شعري لا يفي بالغرض ولا يعكس حجم وطبيعة هذا المنفى الذي تملكني، حتى نسيت ذكره مكتفيا بأفعاله وآثاره! اشتغل المنفى عليّ يوميا كما لو أنني "فأر" بافلوف المختبري، حتى تحققت مقولة الشاعر تشيسواف ميووش: "المنفى يحطم وإن لم يحطمك فستكون بفضله أقوى"! وإذا حصل هذا التهشيم فإنه لا يمس الإنسان جسديا فحسب، بل سيشل قدرته على التفكير والإبداع. كلما كبر الإنسان أكثر استبسل في داخله إحساس بالعودة إلى المنابع الأولى. عادة ما يتشبث كل من المنفى والغربة والعزلة بالذاكرة وهي محطات لو اجتمعت لأصبحت بمثابة "بحر سارغاسو" في المحيط الأطلسي، أما أن تبتلعك دوائره وتياراته الهائلة إلى الأبد أو أن تعينك على مواصلة الإبحار في بحار ومحيطات العالم. معظم الأسماء المعروفة في عالم الإبداع التي نعرفها اليوم هي من خميرة هذه التوليفة، بعضهم بلعته التيارات والآخر ما زال طافيا.
    كان باسترناك يسمي الغربة داخل البلد بالغربة الصعبة، فيما تقول أنت في أحد حواراتك: "كان الوطن الأم عبارة عن منفى وجودي، أما منفى الخارج فهو متعدد الأذرع والأبعاد" ما الذي كنت تعنيه بذلك؟
  • ثمة مشتركات بين بوريس باسترناك وبيني، فهو روسي يهودي عاش في ظل صعود واشتداد أدوات قمع ديكتاتورية ستالينية لا ترحم، وبسبب عدم انتمائه إلى الحزب الحاكم، وجد نفسه مكبوتا وملاحقا ومهمشا من قبل نقاد السلطة. كان يعطي مكانة للفكرة والتأمل والطبيعة والحب في شعره، وهي حاضرة في تجربتي الشعرية أيضا. شخصيا، لا أميل إلى النصوص الطلسمية، والمنمقة المصطنعة الفارغة. كنت أعاني من شظف العيش ومنفى داخلي، فكري، سياسي، ووجودي في بلدي. بعد 2003 تجاهل النقاد الرسميون أيضا ذكري وإلى اليوم أشعر بغبن يلاحقني و"إزاحة" مقصودة، ضيقة الأفق وغبية، من خلال تجاهل ذكر أخباري رسميا، حتى من قبل اتحاد الأدباء العراقيين، متغافلين عن كوني من بين أعضائه القلة الأحياء والأكثر قدما ونشاطا (تم قبولي عام 1977 أثناء غيابي خارج العراق وطردت منه في 1979، وهويتي رقم 290 تحمل توقيع كل من هاشم الطعان، وشفيق الكمالي). أما في الخارج فأعيش على الكفاف، في غربة ومنفى على مستويات متعددة، وكوني عربيا شكل عاملا نفسيا وعائقا أمامي، وضعني بين الحياة العادية والهامش لسنوات. ولولا عنادي ودودة الكتابة والبحث والمثابرة الجادة والعمل المضاعف لهمشني الخارج تماما كما فعل وطني الأول. كان عليّ تعلم لغة القوم بعمق أولا، وإثبات جدارتي الإبداعية والمعرفية ثانيا، الأمر الذي استغرق سنوات وسنوات. نعم، المنفى في الوطن داخلي ووجودي أيضا، لكنه في الخارج أوسع، أكثر وقعا وربما فتكا، خصوصا عندما تفتقد إلى سند المرجعية الأولى. لست لاجئا، ولم يعرف أحد حتى اليوم كيف عشت وعانيت وكم عملت وكيف؟! كلا المنفيين الداخلي والخارجي حقيران، لكن منفى الخارج يصبح أكثر رحمة في أوقات الشدة وسيادة الاستبداد في الوطن الأم، بفضل ما يمنحك من حرية وإمكانية العيش والتفكير كما تشاء.
    رفضت أنت أن تُجيل في أي جيل، وبصراحة هو جواب لم أعتده من الكثير الذين التقيت بهم من الأدباء، هل لك فهم خاص لهذا الأمر، أم أنك ترى أن الشعر نشاط ابداعي فردي، غيرمرتبط بزمن أو مكان؟
  • فكرة "التجييل" اختلقها النقد الأكاديمي أساسا، لتسهيل مهمة الدراسة والبحث، وهي ليست من صنيع الشعراء والكتاب والفنانين. يمكن الانتماء إلى جماعة أدبية أو فنية ويتم ذكرك على هذا الأساس، أما أن توضع في خانة حقبة زمنية محددة لا تربطك بها أي قواسم مشتركة (أنت من هذه العشيرة وتلك الطائفة) فهذا تشويه للمبدع، وقد رفضته، لشعوري بأن حياتي وتجربتي مختلفتان. أنا مختلف نفسيا وتكوينا وتفكيرا وأسلوبا وإحساسا ورؤيا عن كثيرين. فكرة الأجيال مضحكة ومدمرة، حطمت عددا لا بأس فيه من المبدعين. وكما أنني لا أنتمي إلى مدينة عراقية بحد ذاتها، بقدر انتمائي إلى تراث ووطن بأكمله، فأنا أيضا لا أنتمي إلى جيل بعينه. العملية الإبداعية عابرة لفكرة "التجييل" المفتعلة.
    نعتك أحد النقاد بأنك تكاد تكون، وحدك، جسراً يربط الثقافة العربية بالثقافة البولندية، والحق أقول انني شخصيا لم اطلع على الادب البولندي إلا من خلال ترجماتك، وأنت تكتب الشعر باللغتين، العربية والبولندية، على صعوبة هاتين اللغتين.. ما تعليقك؟
  • قيل مرارا إنني "جسر يربط الثقافة العربية بالثقافة الأوروبية"(ومن بين أهم رموزها في الخارج)، ربما يكون هذا الكلام صحيحا إلى حد ما، على صعيد الكتابة الإبداعية والترجمة والعمل الأكاديمي، وكوني أحد المعروفين أجنبيا، لكن، لابد من الانتباه إلى ظهور أسماء أخرى لافتة في العشرين سنة الأخيرة تنشط في أوروبا وأميركا، وحتى في شرق آسيا. أما على صعيد العلاقة مع بولندا فيمكن الجواب بنعم. ولا بد من ذكر الفنان المسرحي الراحل د. محمد هناء عبد الفتاح متولي الذي كان له نشاط كذلك في الترجمة من البولندية رغم ضعف لغته البولندية، وافتقاده إلى الاستقلالية التامة في عمله، لاشتراك زوجته البولندية معه ذات التخصص الاقتصادي، ولابد من الإشادة بترجمات د. يوسف شحادة أيضا.
    بعد خمسين عاما من مكوثك في بولندا، وبالمناسبة تكاد تكون الاديب العراقي الوحيد الذي لم يغير مكانه طوال وجوده في المنفى، بعد كل هذا التاريخ تكتب باللغة البولندية والعربية.. هل أحسست عبر هذا الزمن أنك تفكر بلغة وتكتب بلغة أخرى؟
  • لا يمكن التفكير بلغة والكتابة بأخرى مختلفة عنها في كل شيء. نعم، هكذا كانت البدايات وبعدها توقف الأمر. إذا أردت الكتابة بلغة أخرى فعليك التفكير بها، عليها أن تصبح لغة أحلامك كذلك. إن تلاقح لغتين مختلفتين تمام عذبني طويلا وأغناني دون شك، وسلبني كثيرا من الوقت، لخلق حالة من التفاهم والصلح وعدم الخصام بينهما. لم أكن لاجئا أبدا، لم أقبل فكرة اللجوء فتعذبت كثيرا. كنت أحلم بغرفة تؤويني ليس إلا. درست وعملت وكافحت معتمدا على نفسي طوال الوقت حتى تقاعدت. أعيش منذ سنوات في بريطانيا مع ابني وزوجتي، لكن، ما زالت إحدى عينيّ على وادي الرافدين والأخرى على نهر الفيستولا!
    قلت مرة: " إنّها لجريمة كبرى لا تُغتفَر في منع من تشرّدوا دفاعاً عن العراق، وشعبه، على مدى عشرات السنين، من العودة إلى وطنهم، والعيش فيه بسلام." اسأل: هل برأيك أثر ذلك على ظاهرة الأدب العراقي بعد 2003؟
  • نعم، بكل تأكيد. لهذه القطيعة المفروضة والمقصودة آثار وخيمة، ثقافية، علمية، اقتصادية واجتماعية وتنموية. لقد اختل التوازن في الدولة ومؤسساتها لصالح الضحالة والجهالة وعدم الكفاءة. كل بلد يحتاج إلى عقود من التأهيل والانتظار حتى يكون له كاتب محترم، وأكاديمي ومفكر حصيف، وإعلامي وطبيب ومهندس محترف. تم إقصاء جيش من الكفاءات العراقية المقيمة في الخارج. تعرض العراق لخسائر فادحة، وطمست كثير من الحقائق وشوهت المؤسسات على كافة الأصعدة. بلد موضوع على هامش التاريخ. تخيل حجم هذا الدمار الذي يلحق بالعراق منذ أواخر السبعينات حتى اليوم!
    نعود الى الترجمة التي كانت انشغالك الأهم بعد الشعر، فقد ترجم لك الكثير، ما الذي تراه في الترجمة، وما رأيك بترجمة الشعر؟ ألا ترى أيضا أن الترجمة من العربية شحيحة بشكل كبير.. ما سبب ذلك؟
  • أحس بصدق أنني ما زلت في بداية المشوار. ينتابني شره لفعل المزيد والعمل على تجارب مختلفة، وتقديم أخرى من جديد. الترجمة فعل نبيل وحضاري، لولاها لما تفاهم بنو البشر وتواصلت الأمم وتطورت اللغات والآداب والثقافات والعلوم بهذا الشكل. تكمن خميرتها داخل كل مؤلف، لأنه يحتاج إلى نقل ما يجول في خاطره إلى المتلقي. اغتنيت داخليا ومعرفيا، وتعلمت كثيرا من الترجمة الأدبية لغة وأسلوبا وتفكيرا. الترجمة عملية تشذيب حية لأدوات المترجم وأفكاره قبل سواه وهي امتحان شخصي وتحدّ واختبار صعب للغاية. وبما أنها تحتاج إلى قدرة وموهبة فمن حقها الارتفاع إلى مستوى العملية الإبداعية. تفتقر العربية إلى الشحة ليس في مجال الترجمة فحسب، بل في مجال النشر والنتاج الإبداعي والعلمي والفني والمعرفي بشكل عام، ويكفي أن نراجع عدد ما ينشر من عناوين لنكتشف الحقيقة المريرة وحجم الفضيحة والتخلف.
    صدرت لك في وقت سابق مجموعتك الشعرية الكاملة عن دار المدى تضمنت اعملك الشعرية التي تراوحت بين مختلف أنواع الشعر، بدءاً من العمودي ومروراً بالتفعيلة وصولاً إلى النثر؟ ماذا تبغي من ذلك من مزاولة كل هذه الألوان الشعرية؟
  • الأعمال تصبح كاملة بعد رحيل مؤلفها. لدي ثلاثة دواوين غير مطبوعة بعد. وما صدر يمثل حوالي 80% مما كتبت من شعر. أريد لهذه الأعمال أن تقدم صورة عن التطور الطبيعي لتجربتي الشعرية شكلا ومعنى وإيقاعا. لم أزاول أي شكل بتعسف إطلاقا. عمليا، يدعوني الشعر لتدوينه وحينئذ أحاول تسهيل هذه المهمة بوسائل شتى. أكتب قصائدي ونصوصي الأدبية والنقدية بصعوبة بالغة، ومع ذلك تراني أعود لتنقيحها مرارا حتى بعد نشرها. لكل لحظة إيقاعها، والحال ينطبق على كل نفَس وحرف وكلمة وجملة وشكل وفكرة وشيء من عالم الأحياء والجماد. اقتناص اللحظة الشعرية يتماهى مع اصطياد إيقاعها-إيقاعاتها، وبالتالي شكلها- أشكالها ومضمونها- مضامينها. الأشكال الشعرية التي مارستها هي تعبير عن حاجة، وهي انعكاس بمعنى ما لبيئتها ومكان نشأتها والحالة التي تلبست صاحبها.
    في مجموعتك الشعرية (صمت) ضمت 75 نصا، اكدت من خلالها تمركز قصيدة النثر في تجربتك، نسأل ما هي الأسس النظرية لها؟ وإن كانت هناك ضرورات معاصرة، هل يحتم هذا ان يجهل بعض كتابها أسس البلاغة العربية وجمال اللغة؟ فنحن نقرأ لغة ركيكة وكلام صحافة يسمها كتابها قصيدة نثر؟
  • أمارس "قصيدة النثر" قليلا مقارنة بممارسة القصيدة الحرة التي أميل إليها في العقود الأربعة الأخيرة. في أواخر الثمانينات والتسعينات كتبت عن الفرق بين قصيدة التفعيلة والقصيدة الحرة وقصيدة النثر والنص المفتوح وعرضت وجهة نظري أيضا على طلابي في جامعتي وارسو وتيزي- وزو. ما يميز "قصيدة النثر" ليس افتقادها إلى الوزن فحسب، بل شكلها وأسلوب كتابتها. ينبغي أن تكتب على شاكلة النص النثري وألا تزيد عن صفحة أو صفحتين مع التخلي عن البلاغة والاستفادة من بعض أدوات النثر كالسرد والوصف وحتى الحكاية. أما القصيدة الحرة التي أمارسها أيضا، فهي ليست كما فهمتها (نازك الملائكة خطأ). إنها في شعري تقوم على توليفة من حضور التفعيلة التلقائي وغيابها، توليف بين الإيقاع والشكل والمعنى. إذن، فهي هندسة معمارية توظف هارمونية إيقاعية متعددة الأوجه والمستويات، تكتب بطريقة قصيدة التفعيلة، لا النثر، وأدعي أنها خاصتي. هناك فيض و"إسهال" في كتابة الشعر الرديء، ومجازر لغوية ونحوية مقززة ترتكب. لدي قاعدة تقول: ينبغي تغليب ما هو شعري على ما هو نثري داخل النص، وإلا فهو نثر.
    كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقدين الأخيرين، برأيك هل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال السرد.
  • لا ضير في ممارسة النثر من قبل الشاعر. تأخر العراق في هذا المضمار جدا. هذه ممارسة سبقنا فيها شعراء العالم بثلاثة قرون. شخصيا بدأت بممارسة القصيدة والقصة القصيرة في الوقت نفسه. من خلال تجربتي الشخصية وسفري ومتابعتي لاحظت أن عدد الشعراء لم ينحسر في العالم. نشرت مختارات شعرية في أميركا لفيسوافا شيمبورسكا قبل نيلها جائزة نوبل، ترجمها الشاعر والناقد ستانيسواف بارانتشاك وقد طبع منها مائة وعشرون ألف نسخة! مع ذلك، يبقى الشعر محدود الانتشار بحكم طبيعته. الشعر الحقيقي لا يمكن أن يكون جماهيريا. وصفني بروفسور بولندي شاعر وقسيس ذات يوم بمبالغة، في مقالة له عني بأنني "أحد رعاة العزلة"! ما يتعرض له الشعراء يتعلق قبل كل شيء بابتعادهم عن الجماهيرية، وبصعوبات في النشر والكسب المادي، مقارنة بما يمكن أن يجنيه الكاتب من عمله النثري إن كان ناجحا. أكاد أجزم بأن معظم كتاب العالم المهمين قد خرجوا من تحت عباءة الشعر، ولولا الشعر وهوس الإلهام لما وجدت الأغنية والملحمة والمسرحية، والصورة وجزالة القول والبلاغة، والفنتازيا، ولما تطورت اللغة والمخيلة، ولما وجدت الكتب السماوية! ماذا سيبقى من جمال وإعجاز في الكتب السماوية لو أزحنا منها الجانب الشعري؟! أنظر إلى مزامير داوود، وإصحاح الجامعة، وسفر أيوب، وإلى ملحمة كلكامش، وملاحم الإغريق على سبيل المثال. الشعر هو "الدولة العميقة" في الأدب والثقافة وهكذا سيبقى.
    حصلت على جائزة ترانسأتلانتيك الحكومية في دورتها التاسعة عشرة، تقديراً لإنجازاتك البارزة في نشر وترويج الأدب البولندي والثقافة البولندية.. ما الذي تعنيه لك الجائزة الأدبية؟ هل تراها ترفا أم ضرورة؟
  • هناك من يحتاج إلى وضع الجوائز في السي في (CV) الذي لم يعد يعنيني. شخصيا، أنظر إلى كل جائزة مستحقة باعتبارها تكريما معنويا وأحيانا ماديا مجديا، والتفاتة لنشاط متميز لفرد أو جماعة ما، وقفة آنية تحمل نوعا من الترويج والتحفيز إلى فعل ما هو أفضل، وبصراحة تحمل الجوائز دغدغة للمشاعر وإن أخذت على محمل الجد قضت على حاملها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

بيت القصب

مقالات ذات صلة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة
عام

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

حاوره علاء المفرجيهاتف جنابي؛ شاعر وكاتب ومترجم للأدب البولندي إلى العربية والعربية إلى البولندية. نشأ وتعلّم في مدارس العراق، وفي سنة 1976 توجّه نحو بولندا، لإكمال دراسته، ومن ثمّ للعيش فيها. منذ ذلك التاريخ،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram