أحمد حسن
لطالما كان الجدل حول العلاقة بين الدين والديمقراطية أحد أبرز المواضيع التي أثارت الأسئلة في الفكر الإسلامي، إلا أن نقل هذا النقاش من سياق إيران إلى العراق يفتح أفقًا جديدًا من التحديات الفكرية والسياسية. بين ثنايا هذا النقاش، تظهر بوضوح صورة متشابكة بين الدين الإسلامي والسياسة، حيث لا يعد هذا الموضوع مجرد إشكالية سياسية بحتة، بل هو أيضًا معركة من أجل تحديد هوية المجتمع والسلطة.
في مقاله المثير للجدل في صحيفة "اعتماد" الإيرانية (20 يناير 2025)، يفتح عباس عبدي، الكاتب الإصلاحي البارز، حوارًا نقديًا مع التصورات المتصلبة التي تبناها بعض رجال الدين، مثل الشيخ مصباح يزدي، الذي يرى في الديمقراطية خصمًا للإسلام. في مواجهة هذه الرؤية، يقدم عبدي تصوره الفلسفي الذي يسعى للتوفيق بين العقل الإنساني والروحانية الدينية، قائلًا إن الحكم الإلهي لا يلغي دور البشر في صياغة قوانينهم الخاصة. في نظر عبدي، الديمقراطية ليست مجرد بديل لسلطة الدين، بل هي الأداة التي تساهم في تنظيم المجتمع ودرء الصراعات، بما يتوافق مع جوهر الدين الاسلامي الذي لا يعترف بالإكراه. ويُبرز بذلك التعددية الفقهية بين المسلمين، مشيرًا إلى أن الاجتهادات الفقهية ليست ثابتة بل متغيرة، مما يفتح الباب أمام التنوع الديني والفكري.
وعندما ننتقل إلى العراق، نجد أن هذه المناقشة تأخذ منحى أكثر تعقيدًا. هنا، حيث تختلط جذور الطائفية والتاريخ الديني العميق مع الحاجة الماسة لتأسيس ديمقراطية حديثة. دستور العراق لعام 2005، الذي ينص على أن "الإسلام دين الدولة والشريعة مصدر رئيسي للتشريع"، يضع البلاد في مواجهة بين إرث ديني طويل الأمد ومتطلبات الديمقراطية التي تدعو للحرية والمساواة. لكن، ورغم هذا التوازن النصي، فإن الواقع السياسي في العراق يظهر أن الطائفية قد تحولت إلى أداة لاحتكار السلطة، مما يعقد من تحقيق الوحدة الوطنية.
منذ عام 2003، بدأ العراق يواجه تصاعدًا حادًا في التوترات الطائفية والسياسية التي أدت إلى تشويش مفهوم الدولة الحديثة. القوانين التي تعتمد على التفسير الديني، مثل قانون "الأحوال الشخصية" أو التشريعات التي تمنع بيع الكحول، تكشف عن التوتر المستمر بين الدولة المدنية ومتطلبات الشريعة. هذه الظواهر تطرح تساؤلات منطقية حول الحدود بين حرية الفرد وحكم الدين، وحول مدى قدرة المجتمع على التعايش مع قوانين دينية قد تفرض قيودًا على الحريات الشخصية.
وإذا كانت الديمقراطية تتيح للأفراد الحرية في اختيار من يمثّلهم، فإنها تواجه في العراق معركة فكرية حول تفسير الدين وطريقة فرضه في المجال العام. عبدي، في مقاله، يثير نقطة محورية: هل يمكن فرض الدين بالقوة على الناس، أم أن الديمقراطية، التي تحترم حرية الاختيار، هي السبيل الأرقى للتعايش بين المعتقدات؟ يرى عبدي أن الدين في جوهره يرفض الإكراه، وأن فرض الشريعة بمعزل عن إرادة الشعب يناقض جوهر الحرية التي يدعو إليها الإسلام.
في ظل هذه الإشكالات المعقدة، يُطرح الحل في تعزيز الهوية الوطنية العراقية فوق الاعتبارات الطائفية. الهوية الوطنية، التي تتجاوز الانتماءات الدينية والمذهبية، هي السبيل الوحيد لبناء دولة ديمقراطية حقًا، قادرة على تجاوز التحديات المذهبية والتوفيق بين الدين والدولة. هذا يتطلب إصلاحًا عميقًا في الخطاب الديني، بحيث يُركّز على قيم التسامح والتعايش، ويُعزز من مفهوم الدولة المدنية التي تحترم التنوع الديني والثقافي.
النموذج الذي نجحت فيه دول كثيرة في تحقيق ديمقراطيات مستقرة يعتمد على تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، لا من أجل إقصاء الدين، بل لضمان عدم استغلاله كأداة سياسية. هذا التنظيم يكفل حرية العبادة ويضمن في الوقت نفسه أن يبقى النظام السياسي في إطار احترام حقوق الإنسان والمساواة بين الأفراد.
عبدي، في طروحاته، يعيد التأكيد على أن الديمقراطية ليست ضد الدين، بل هي وسيلة لتنظيم الحياة الاجتماعية وتحقيق العدالة بين الناس. وان القبول برأي الأغلبية لا يعني التخلي عن القيم الدينية، بل هو محاولة لإدارة الاختلافات البشرية بواقعية، حيث يدرك الجميع أن رفض قواعد التفاهم الجماعي يجعل الحياة مستحيلة. وهنا تظهر أهمية العقل الذي منحه الله للبشر كأداة لفهم العالم وتنظيمه. عبر العصور، نجح العقل البشري في تطوير نظم حكم متوازنة تحقق قدرًا كبيرًا من العدالة والاستقرار. وإذا كان هناك نقص في بعض الجوانب، فإن التجربة الإنسانية في تطور دائم، كما يظهر بوضوح في نجاح الدول التي اعتمدت على العقل النقدي والمؤسسات الديمقراطية، مقارنة بالدول التي وقعت في أسر الأيديولوجيات المطلقة.
وان الاستشهاد بآية "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ"، كما نبه لها عبدي في مقالته فقد كان شعارًا رفعه الخوارج في مواجهة الإمام علي، ظانين أنهم بذلك يحتكرون الحق الإلهي. لكن الإمام علي رد عليهم برد بليغ قائلاً: "كلمة حق يراد بها باطل". هذا الموقف التاريخي يعكس إشكالية تأويل النصوص الدينية وتحويلها إلى شعارات سياسية تُستخدم لتبرير مواقف أيديولوجية.
ومن خلال هذا التصور، يمكن للعراق أن يتقدم نحو تأسيس نموذج سياسي جديد يتماشى مع مبادئ الحرية والدين في ذات الوقت. إن المسار الذي يطرحه، رغم صعوبته وتعقيداته، يمثل الخيار الوحيد الممكن لبناء دولة مدنية تُحترم فيها حقوق الجميع وتُعزز من قيم التعايش والتسامح بين مكونات المجتمع العراقي.
ومن خلال هذا التصور، يمكن للعراق أن يتقدم نحو تأسيس نموذج سياسي جديد يمزج بين القيم الإنسانية الكونية والمبادئ الروحية التي لطالما كانت جزءًا من وجدان المجتمع العراقي. إن التوفيق بين الحرية والدين ليس مجرد إمكانية نظرية، بل ضرورة عملية تستجيب لطبيعة التعدد الثقافي والديني الذي يميز العراق. فالحرية، بما تحمله من دعوة إلى الكرامة الإنسانية والتنوع الفكري، ليست نقيضًا للدين، بل هي شرط لاستعادة جوهره الأخلاقي والروحي بعيدًا عن التوظيف السياسي الذي شوه صورته في عيون الكثيرين.
في هذا المسار، لا يعني السعي إلى الدولة المدنية إقصاء الدين من الفضاء العام، بل إعادة وضعه في سياقه الطبيعي كمصدر للقيم الأخلاقية والمعنوية، لا كأداة للهيمنة أو الإقصاء. فالدين الحقيقي ليس قوة تفرض ذاتها بالقسر والإكراه، بل نبع يلهم القيم التي تعزز من قوة المجتمع وتماسكه. ومن جهة أخرى، تمثل الحرية التجسيد الأسمى لقدرة الإنسان على تقرير مصيره والارتقاء بذاته، وهي لا تتحقق إلا من خلال نظام سياسي عادل يضمن الحقوق للجميع ويمنع انزلاق الدولة إلى أيديولوجيات الإقصاء والطغيان.
إن هذا التصور، رغم تعقيداته، يحمل في طياته رؤية فلسفية عميقة لبناء مجتمع متماسك تتآلف فيه المكونات المختلفة تحت مظلة وطنية جامعة. هو تصور يطالب الأفراد والجماعات بالتخلي عن عقلية الصراع التي مزقت أوصال البلاد لعقود طويلة، لصالح ثقافة الحوار التي تضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار. وفي ظل هذه الرؤية، يصبح الدين والحرية شريكين في بناء نظام جديد يضمن العدالة، ويجعل من الإنسان محورًا لكل السياسات والتوجهات، ويعيد للعراق مكانته كمهد للحضارات الإنسانية.
قد يبدو هذا المسار شاقًا ومليئًا بالعقبات، لكنه الخيار الوحيد الذي يمنح العراق فرصة للخروج من متاهة الطائفية والانقسامات، نحو مستقبل تُحترم فيه حقوق الجميع، ويُصان فيه التعدد بوصفه ثروة لا تهديدًا. إن العراق، بكل ثقله التاريخي وقوة روحه، قادر على أن يكون نموذجًا جديدًا لعلاقة متوازنة بين الدين والدولة، تنبثق منها دولة مدنية تُعزز قيم التعايش والتسامح، وتُعيد بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الفرد والمجتمع، وبين العراق والعالم.