TOP

جريدة المدى > عام > الحصيري في ثلاثة أزمنة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

نشر في: 9 فبراير, 2025: 12:03 ص

زهير الجزائري
معي في الصف حتى نهاية الدراسة الابتدائية صبي مميز في مكانه وهيأته واجتهاده. يجلس بوقار في منتصف الصف الأمامي. وهو الوحيد الذي بقي يرتدي دشداشة نظيفة مزررة حتى العنق. شفع له كونه سليل عائلة دينية رفضت الزي الرسمي. نادراً ما يبتسم ويتجنب المشاركة في الرياضة أو اللعب في الساحة، و لا يشاركنا الكلام إلا بأجوبة مقتصدة. بدورنا تجنبناه باعتباره نوعاً من البشرلا يمكن فهمه بسهولة. حين يملّ المعلم من الإلقاء يطلب منه ان يحل مكانه فيلقي علينا الدرس عن ظهر قلب. الاجتهاد في النجف يكمن في القدرة على الحفظ والاستظهار. حفظ سور القرآن بكاملها، حفظ الأحاديث، حفظ النصوص الفقهية، حفظ القصائد…النصوص هي التي تحل معضلات الحياة اليومية حتى لو لم تصمد أمام التجربة. تفعل في الواقع بصيغة الأمر. عبد الأمير الحصيري سحرنا بقدرته الخارقة على حفظ النصوص. لم يكن متباهياً بقدراته ولا منبرياً، على العكس يمشي منكساً رأسه متوارياً عمن ينظر إليه، يستحضر القصيدة ويرددها بصوت عال بمعزل عن الناس، و لا أحد يعرف كيف تتسلل منه إلى القراء الحسينيين. حين نذهب كحزمة أصدقاء لمكتبة (الرابطة الأدبية في النجف) لنتسلى بالكاريكاتير في مجلة (حبزبوز) الساخرة، نراه وحيداً في ركن قصيّ منكبّ على دواوين البحتري، والمتنبي، وأبي نواس. نتحاشاه مهابة، ولدينا إحساس بأنه سيكون له ذات يوم شأن ما، لكننا لم نتوقع أبداً الانقلاب اللاحق في حياته.
***
بين حشد الجنازين في مقهى (مال الله) ووسط حركتهم النشطة لاستقبال الموتى التقيت بزميلي في الابتدائية (عبد الأمير الحصيري)، وقد عاد تواً من بغداد بعد غيبة طويلة. خلال هجرته المبكرة لبغداد صار يلتقي بالشلة الوجودية ومنها الشاعر (حسين مردان) و القاص (نزار عباس). مفلسا، مشردا منبوذا عاش الحصيري في بغداد حياة بوهيمية بلا استقرار، يستنزف حياته بدون راحة.. يتجول على طول بارات (أبي نواس) حتى آخر الليل، وينام حيث ما وجد مهجعًا، لا يهم في زاوية من اتحاد الأدباء، بيت معجب لا يعرفه، في مقهى وأحيانا في الشارع بعد أن طُرد من الفنادق الرخيصة. في النهار يتجوّل بين عدة مقاهٍ: البلدية، حسن عجمي، الزهاوي، البرلمان، باحثاً عمن يسلفه مبلغا لمواصلة حياته. خلال هذا التجوال المتعب وصف الحصيري عن حق حياته في بغداد (أنا سندبادك والدروب زوارقي...) وكانت (معلقة بغداد) الطويلة تنضج في ذهنه...فتح الحصيري باب التمرد في جيلنا من دون أن يشاركنا في مغامرتنا الثقافية. فقد بقي وفيّاً للعمود الشعري وفي باله المنبر. هذه الحياة العبثية المتمردة مسّت إبن العائلة النجفية المحافظة أسيرة التقاليد والأصول فقلبته (على البطانة).
في المدرسة عرفته نظيفاً كما لو كان قد خرج تواً من دروس الحوزة نازعاً عمامته للوضوء. وكان يزرر ياقته وأكمام قميصه، يريد أن يخفي كل ما في الجسد من رغبات بنوع من الزهد الديني. على العكس طال شعره الآن وتسرح إلى الخلف براقاً من تراكم الدهون، تهدل كرشه فانفتح زران من قميصه، وفي شفتيه حمرة رطبة تعكس نهماً الى الجنس والخمرة. كثير الشبه كان بالشاعر حسين مردان الذي (رأى أمه عارية في الحمام فود لو يراها ثانية). أول ما لفت انتباهي في الحصيري الآخر العائد الى مدينته هو صوته العالي وهيئته الجديدة، إعلان عن تمرد، ودعوة لأن يصلب عقاباً على موبقاته.
نزعة التعالي التي ميزت الشعراء العموديين المتمردين (من المتنبي الى الجواهري) شملت الحصيري، الذي أعتقد أنه بزّ الجواهري بمطولاته (معلقة بغداد) و (يا أم هارون). الثلاثة (المتنبي،الجواهري والحصيري)على اختلاف الأزمنة جاءوا من نفس البيئة الصحراوية (الكوفة والنجف)، وعانوا من شعور متضخم بالغبن وعداوة الآخرين. لم يكتف الحصيري السكير المشرد المنبوذ بألقاب (إمارة الشعر) أو(شاعر العرب الأكبر)، إنما جعل الشعر (وقفاً عليه فقط) حسب موسى كريدي*. حوله في المقهى حشد الجنازين في الإنتظار وأمامه يمر طابور الموتى وعلى اليمين امتداد المقبرة اللانهائي حين استعاد بيتا له :
إذا ذهبت نفس (الحصيري)أغلقت عرى الشعر واسترخى عنان القصائد.
***
كما معاصره الجواهري تشرّب الحصيري بالقديم خلال قراءاته أبرز الشعراء العموديين، المتنبي والطرماح خاصة، وهيمنوا عليه، لكنه تأثر أيضا بالنزعة الرومانسية والتعالي النيتشوي عند الشعراء المهجريين. برغم علاقته بالشعراء المحدثين في بغداد، لم يغادر الحصيري العمود كما فعل شعراء من جيله، فالشعر كما علمه المنبر إلقاء وليس همس داخلي. العمود نفسه والنبرة الخطابية منذ أكثر من 14 قرناً، لكن الحصيري الشاب الستيني غيّر موضوع قصيدته، من الحسينيات التي بدأ بها في النجف الى الخمريات والجنس متأثراً بشعر الياس أبو شبكة وديوانه (أفاعي الفردوس).
في هذا المقهى وبدون ان يتلفت حذراً أخذ يقرأ بصوت جهوري قصيدة أبو شبكة :
مغناكِ ملتهب و كأسكِ مترعة
فاسقي أباك الخمر واضطجعي معه
لم تبق في شفتيك لذات الهوى
ماتذكرين به حليب المرضعة.
يقرأها بصوت عال في تحد لمن يعترض من جلاس المقهى. كنت آنذاك أعدّ نفسي لأكون رساماً، لكن طريقته في الالقاء وهو منتش مغمض العينين سحرتني لكي أجرب الشعر.
***
عودة الحصيري ٢٣-٢-١٩٧٨
نحن الآن نتجه إلى النجف. فالح يقود السيارة وإلى جانبه رياض قاسم وانا في المقعد الخلفي. الصمت مخيم علينا نحن الثلاثة. يكسره رياض بين فترة وأخرى برواية مفارقة. أمامنا التابوت الذي يضمّ جسد الشاعر عبد الأمير الحصيري (النجف ١٩٣٥-١٩٧٨) الذي وجد ميتاً في فندق شعبي في كرخ بغداد. في هذا الصندوق المسجى على سقف السيارة جسد نظيف تماماً، نظافة ما عرفها عبد الأمير الحصيري خلال حياته الأخيرة. لم أستطع أن أفسّر السبب الذي يدعو الى هذه النظافة المشددة. رأيتهم ينظفون بالعيدان أسنانه وأظافره وطبلة اذنه، ويغسلون جسده، وحتى الطيات الخفية فيه. ربما هم يريدونه أن يذهب الى ربه كما جاء عارياً بلا نأمة تراب. حين انتهوا من تنظيفه نادونا أنا وشقيقه الصغير لنأخذ الجسد الممدد على الرخامة. على عكس ما تصورناه كان خفيفا كما ملاك بدين. مغمضا عينيه كما نائم بعد ليلة من التسكع. الجسد ليّن وطيّع…
وصلنا النجف عند اقتراب المساء. في الطريق إلى المقبرة تقدمنا صعلوك مثل الحصيري ( منقذ شريده). فخور بأنه يحمل أكليل جريدة (طريق الشعب). المقبرة في الليل مخيفة مشحونة بارواح الموتى وهي تحلّق حولنا. سكونها مليء بشهقات الأرواح التي هوت، والتي تصعد. الموتى هنا فقدوا ملامحهم و استحالوا موكباً يغطي الأرض، مطرقي الرؤوس، يلومون الأحياء وينتظرونهم بلا شوق. المشيعون تناثروا بين القبور، في وجوم وجلال وهم يواجهون الموت الذي استحال الآن كمّاً مهيباً ومرعباً. وفي وسط هذا الظلام وبرد الصحراء كانت البقعة الوحيدة المضاءة هي تلك الدائرة الضيقة المحيطة بالحفرة التي سيوارى فيها الحصيري . ضربات الفأس على الأرض الملحيةً مؤكدة قوية. معها تبدو شهقات النحيب المنفلتة أصوات مراهقة حمقاء لا معنى لها. ماهي الصداقة؟ ماهو الحب؟ ماهي الذكريات؟ هنا يستحيل كل شيء الى حرفة. فالدفان يؤدي مهمته كأي عمل آخر. هناك تفاصيل صغيرة تهمه من ذلك الرجل، ضخامة جسده ، ثروة أهله، نوعية ازاره، لذلك فهو يؤدي مهمته بمعرفة عميقة تترفع فوق كل هذه المناحات و التفجعات التي تأتي فيما بعد، ولن تعيد للميت شيئاً. عندما أهالوا التراب وقف (سعدي يوسف) وقال على جسد الميت بضع كلمات. تحدث عن فتى خجول جاء إلى بغداد وعمل مصححاً لغوياً، يكاد «لا يرفع رأسه خجلاً حين نتحدث إليه…أزعُمُ أن أسطورةَ الشاعر ( لا الشاعر) هي ما تبَقّى لنا من عبد الأمير، عامل المطبعة الشيوعيّة الفتى، جلْيسِ الليلِ وأمير الحانات الرخيصة، الذي لم يُرِحْ رأسه إلاّ في مقهى حسن عجمي، وفي وادي السلام حيثُ يثوي» ...بعد ذلك أهيل التراب، ولم يبق منه غير تل صغير يدل عليه، وتوارى عبد الأمير تماماً، يا للعجب! والأعجب هو اننا برغم هذا الافق الذي لا يحد من شواهد القبور مازلنا نعجب لأن شخصاً قريباً منّا قد مات! في عودتنا من المقبرةً خيّم الصمت علينا.
الموت كان هاجسنا نحن الثلاثة بعد أن دفنّا الحصيري في وادي السلام. فالح كان يقود سيارة والده الفولكس فاغن، ونحن معه رياض قاسم وأنا. نسير بمحاذاة الجدار الذي يفصل المقبرة عن المدينة وصدى المجرفة وهي تهيل كتل التراب على جسد الحصيري ما يزال يتردد في أذهاننا. ما عاد الحصيري موجوداً. في الطريق طرح رياض، بحسه الكوميدي، سؤالاً عن موقع قبورنا القادمة. طرحها وهو يكرّز حب اليقطين بقلق دون استمتاع. ما كنت أفكر بمكان غير هذا الوادي الأجرد وأرضه الملحية، وكذلك رياض. مكان مثالي للموت. للمرة الأولى نتنبه الى أن فالح سني. كانه عرف مسبقاً ما سيجري الحديث عنه، فقال بنفس السخرية، لا أريد مقبرة سنية ولا شيعية،. اريد أن احرق. أن يتناثر رمادي في الهواء!
طلبوا مني أن اكتب عنه بضعة سطور، لكن المؤلم هو انني لا أعرف الكتابة عن الموتى، لقد كتبت عن ابراهيم زاير بعد موته بأكثر من خمس سنوات. في وقتها لم أستطع كتابة سطر، ومازلت مديناً بالكتابة عن أصدقاء كثيرين فقدتهم: أبو الفهود، محمد موسى، ابراهيم، فردوس.
مقاطع من يوميات تحت النشر

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

تنويعات في الوضوح

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

مقالات ذات صلة

الحصيري في ثلاثة أزمنة
عام

الحصيري في ثلاثة أزمنة

زهير الجزائري معي في الصف حتى نهاية الدراسة الابتدائية صبي مميز في مكانه وهيأته واجتهاده. يجلس بوقار في منتصف الصف الأمامي. وهو الوحيد الذي بقي يرتدي دشداشة نظيفة مزررة حتى العنق. شفع له كونه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram