TOP

جريدة المدى > عام > الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

نشر في: 10 فبراير, 2025: 12:08 ص

خضير الزيدي
مرت التجربة الفنية العربية بعدة متغيرات اسلوبية وطروحات فكرية ومنها (التجربة العراقية واللبنانية وبعض الدول العربية) وكانت مرحلة ستينيات القرن المنصرم الفترة الملفتة حسب اراء نقاد الفن ومنها انطلق الفن العربي مواكبا للحركات العالمية ومتأثرا باتجاهاتها او منقلبا على دعوات الحداثة فيها، فقد شهدت التجربة العراقية ولادة اسماء اتخذت من الفن التجريدي خيارا لها امثال شاكر حسن ال سعيد وسالم الدباغ في الرسم ومحمد غني حكمت في النحت وبينما تتوسع رقعة الفن من العراق الى البلدان الاخرى نجد الفنان اللبناني جبران طرزي يشق طريقه واسلوبه الخاص مختلفا عن اقرانه فيتخذ من التجريد الهندسي مساحة للتعامل في اتجاهه الفني والفكري ولان ارادته واتجاهه اتسما بالوضوح في تجديد الخطاب الفني فقد تعالى هتافه بربط اتجاهين مختلفين اولهما الاهتمام بالفن المشرقي كخيار يمثله وثانيهما الاستفادة من مقولات الحداثة الغربية دون اتخاذها هدفا او طريقا وحيدا فكان هذا الفنان اللبناني المولد عام 1944 اكثر وضوحا واكثر شبها بالفنان العراقي شاكر حسن ال سعيد فالاثنان مضيا وقتا كبيرا في البحث عن خصائص وطرائق فن شرقي فاذا كان شاكر ال سعيد ارتمى في حضن التصوف الاسلامي فجبران عكف متصوفا في رحاب المسيحية وهذا ما حدث في معرض مشترك للاثنين يوم جمعهما الاستاذ صالح بركات في آرت دبي عام 2018 مثلما ذكرت ذلك جريدة لوموند الفرنسية واذا كان سالم الدباغ ذهب الى نزعة تجريدية خالصة ذات طابع روحي مميز من خلال عنصر اللون الاسود وطاقته والمربع الذي يرافق مجموعة من اشتغالاته فقد وجدنا بان الفنان جبران طرزي انشغل بالأشكال الرياضية عبر عشرات اللوحات ذات الطابع التجريدي الهندسي لكن الذي يلتقي فيه جبران طرزي مع شاكر حسن ال سعيد ليس التصوف الروحي لوحده وليس بنائية سالم الدباغ او روحية التصوف بل هناك الانغماس في التأكيد على ارث الهوية العربية فشاكر حسن حسب رؤية الناقد التونسي نزار شقرون في كتابه (شاكر حسن ال سعيد نظرية الفن العربي) قد اشار الى المسألة السياسية التي تعد جزءا من تصوره فان جبران طرزي عاش ويلات الحرب الاهلية ونكبتها النفسية الحادة عليه تلك الحرب التي خيبت اماله وجعلته معتكفا وحزينا اعادت له قراءة المشهد الفني العربي والمشرقي عامة فدعا عبر بيانه (الحاجة الى الشرق) الى اعلاء الفن العربي والعودة لأهميته وهذا ما فعله شاكر حسن ال سعيد في منتصف خمسينيات القرن المنصرم يوم توجه لفرنسا ليقدم من هناك اطروحته عن الواسطي وعن منمنماته المعروفة وهو نفس ما قدمه جبران طرزي في فرنسا من احيائه لروح الابداعي الادبي من خلال روايته (معصرة الزيتون) فقد تعلم الاثنان عبر الرسم والابداع النقدي والادبي وكانت باريس ملاذا لهما مع انهما بينا استحالة الاندماج بالتجربة الفرنسية او اقصاء هويتهما المشرقية واذا كان شاكر ال سعيد قد حدد التزامه السياسي وموقفه من التصورات البرجوازية فجبران طرزي بيّن موقفه الصريح مما يحيط بالإنسان العربي من خلال مقولته المشهورة في كتابه تنويعات هندسية (كم هو طيب ومرضي ان نقول نحن عندما يتفتت (نحن) الايمان الديني والايمان بالإنسان) ومن خلال هذا التوجه الانساني نفهم صلة القرابة في الآراء والتوجهات للاثنين ونعي ان تجربة طرزي وقبله آل سعيد تعيد لأذهاننا بان نفرا من الفنانين العرب عملوا بوعي وقدرة ومسؤولية في الحفاظ على فن عربي يرتقي الى سمات الفن العالمي لهذا عاد جبران طرزي الى الاصول واقصد بها الفن التجريدي الهندسي بعد ان كسب المهارات الفنية من خلال اسرته التي امتهنت صناعة الحرف التقليدية فقدم بحوثا فنية وانجز اعمالا ذات طابع تجريدي جمالي مختلف واذا كان موقف شاكر من الهوية يمثل اطارا نظريا للغالب من طروحات الفكرية واشتغالاته فجبران طرزي اعلن بوضوح بانه (لا اوافق من يتحفظ على عبارة جذور فكانت يستبدلها بعبارة اصول) وهو نفس التصور الذي ذكره نزار شقرون في كتابه اعلاه من ان كلمة (الاصول تعني العودة الى الجذور وتعتبر لفظة الجذر هامة في خطاب شاكر حسن آل سعيد) نفهم من خلال توجهات الفنانين انهما مسكونان بهوس المحلية والتراث العربي واحترام مبدأ الخصوصية في الفن والانتماء مع انهما عاشا في فرنسا واقتربا من رؤية معالم الحداثة الغربية الا ان المرجح لنا جميعا ان لهما عدة نقاط التقاء مشترك وهو ما ينيب عن باطن جوهرهما في النظر الى منجز الفن الشرقي عموما والرهان على استعادة الخسائر التي عاشتها سنوات مظلمة من مرحلة تاريخنا العربي وهو نفس الشعور الذي سكن وجدان وضمير جواد سليم حينما هرع الى التراث البغدادي ليتميز فيه بشكل بارع فما المغامرة التي استهوتهما وما الثوابت التي تجمع بين شاكر حسن وجبران طرزي؟
عرف عن شاكر حسن انه منظّر من نوع منفرد لدرجة انك لا تفرق بينه كمتصوف روحاني وفنان تجريدي امتلك مفهوم الفن الاسلامي عنده في اعلى تصورات رؤيته الفكرية وبموازاة مسألة التراث الرافديني العريق اما اللبناني جبران طرزي فلم تشغله المسيحية كديانة تمثله بل انشغل بدعوات انسانية جاءت بها تعاليم السيد المسيح والديانات السماوية الاخرى فما يسكن وجدانه من قضية الدين هو نزعة التحرر من القيود الخارجية التي تربط الانسان دون جدوى، فشاكر بعزلته كمتصوف وفرّ البحث والتأمل في ذاته والذات الالهية بينما ذهب جبران طرزي لينغمس في هموم ما عاشته المنطقة من تداعيات خطيرة منذ نكبة فلسطين ومنها لبنان من حرب اهلية دمرت كيانه وعصرت روحه فلجأ الى عزلة قاسية ابتعد فيها عن الاخرين ندما وحزنا على ما حدث والعزلة التي عاشها الاثنان اتسمت بطابع انساني فهذا شاكر يفكر في جوهر التصوف والعيش زاهدا وذلك جبران طرزي يعيش لوعة موت الاخرين امام عينيه فكيف جسد الاثنان هذا النزوح الروحي والانساني وعبرا عنه فنيا وما نقاط الالتقاء والاختلاف في تجربتهما؟
في اللوحات التجريدية مثلا ينطلق شاكر حسن آل سعيد في حروفياته نحو اجتهادات خاصة مثلما ذكر بلند الحيدي في مقالته في مجلة الوحدة الحرف العربي في الفن التشكيلي (لم تستأثر القيم التزينية للحرف باهتمامه مطلقا) في ذات السياق نجد اللوحات التجريدية عند جبران طرزي مفعمة بالطابع التزيني لأسباب كثيرة تتعلق بالشعور بقيمة اللون ومؤثراته البصرية بالإضافة للبحث في حساسية الاقتراب من الجانب الروحي للإشكال الرياضية كالمربع والمثلث وهناك سبب اخر يكّمن في الطريقة التي اكتسب خبرتها جبران طرزي من خلال تحمله لمسؤولية قسم التلوين في مشغل عائلة ال طرزي للآثاث الشرقي والخشب المزخرف وسقوف الديوان الدمشقي ايضا نجد شكل المثلث حاضرا في الأوفاق لديه بطابع روحي تجلى في بعض من لوحاته وهو بمثابة شكل تدويني سنجد في المقارنة بان مثلث جبران طرزي اخذ فضاء رياضيا وهندسيا وبات مرتكزا او نقطة اشتغال تتساوى فيها نقاط الارتكاز الشكلي لغرض بيان جمالية الفن التجريدي الهندسي ومن هنا سيكون الحق للاستاذ صالح بركات في رأيه حينما جمع الفنانين في معرض مشترك في ارت دبي لان خصائص تجربتهما وابعادها الروحية والجمالية تلاقي الكثير من القراءات وتبقى مفتوحة على التصور الذهني والتأملي والتأويل في كشف الكثر مما يلتقيان فيه

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

الحصيري في ثلاثة أزمنة

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

تنويعات في الوضوح

مقالات ذات صلة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي
عام

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

خضير الزيدي مرت التجربة الفنية العربية بعدة متغيرات اسلوبية وطروحات فكرية ومنها (التجربة العراقية واللبنانية وبعض الدول العربية) وكانت مرحلة ستينيات القرن المنصرم الفترة الملفتة حسب اراء نقاد الفن ومنها انطلق الفن العربي مواكبا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram