بغداد – تبارك عبد المجيد
تتقلب أسعار صرف وارتفاع الدولار مقابل الدينار، مما يجعل الاقتصاد العراقي امام تحديات كبيرة، مما يثير مخاوف من أزمة مالية محتملة. وبينما تؤكد الحكومة استقرار السياسة النقدية، يحذر خبراء من تأثير القيود المالية والإنفاق المتزايد على استقرار السوق، مشددين على ضرورة إصلاحات عاجلة لضمان استدامة الاقتصاد. يقول مستشار رئيس الوزراء العراقي، د.مظهر محمد صالح، إن "الحكومة لا تفكر حاليًا في تعديل معادلة سعر الصرف أو ما يُعرف بـ"التكيف النقدي"، نافيًا التكهنات المتداولة بهذا الشأن. وأوضح صالح، في حديث مع (المدى)، أن هذه الأقاويل لا تستند إلى أسس واقعية ضمن السياسة النقدية الحالية، مشددًا على أن القطاع النقدي في العراق يتمتع باستقرار واضح.
وأشار صالح إلى أن "هذا الاستقرار يعود إلى الاحتياطيات الأجنبية القوية التي يمتلكها البنك المركزي العراقي، حيث تتجاوز نسبة تغطية الدولار للدينار حاجز 100%، مما يساهم في ضبط السوق المالي وتقليل تأثير السوق السوداء للعملة، رغم الفارق السعري الذي يصل إلى نحو 13% عن السعر الرسمي". وأوضح المستشار أن الاحتياطي الأجنبي يعد أداة رئيسية للتحكم بمستوى السيولة النقدية داخل العراق من خلال عمليات السوق المفتوحة، وهي إحدى الآليات التي تعتمدها السياسة النقدية لضبط الاقتصاد. كما أكد أن البنك المركزي يلبي أكثر من 95% من احتياجات السوق المحلي من الدولار، بسعر صرف يبلغ 1320 دينارًا لكل دولار، مما يعزز استقرار السوق النقدية.
وفيما يتعلق بالسياسة المالية، أكد صالح أنها تمتلك أدوات فعالة لضبط النفقات وزيادة الإيرادات دون المساس باستقرار الاقتصاد الكلي، مشددًا على أن اللجوء إلى تمويل العجز المالي عبر التضخم، أو ما يُعرف بالضرائب التضخمية، يُعد من أسوأ السياسات التمويلية نظرًا لما يسببه من اضطرابات سعرية وانعكاسات سلبية على القوة الشرائية للموازنة العامة والدخل النقدي للمواطنين.
وكان عضو اللجنة المالية النيابية، حسين مؤنس، قد حذر من خطورة التوسع في الإنفاق الحكومي، مشددًا على أن الموازنة التشغيلية تُستهلك بشكل كبير على القضايا الكمالية، مما يستدعي ضرورة تقليصها في موازنة عام 2025.
وأوضح مؤنس أن وزارة المالية تواجه تحديات كبيرة في توفير الرواتب، حيث تدخل في حالة إنذار مالي في العشرين من كل شهر، بسبب محدودية الإيرادات الضريبية، إذ لا يتم تحصيل سوى 3 تريليونات دينار سنويًا من أصل 9 تريليونات متوقعة. كما أشار إلى أن هناك تحويلات يومية تصل إلى 250 مليون دولار، إلا أن العائدات الضريبية لا تعكس هذا الحجم، مما يشكل خللًا في النظام المالي.
وأعرب مؤنس عن مخاوفه من عدم وجود خطة اقتصادية واضحة لمواجهة أي انخفاض محتمل في أسعار النفط، مؤكدًا أن العراق قد يواجه أزمة مالية خطيرة في حال تراجع الإيرادات النفطية، مما قد يدفع الحكومة إلى خيار رفع سعر الصرف مجددًا كإجراء اضطراري.
في السياق ذاته، انتقد الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة والبنك المركزي، معتبرًا أنها لم تكن كافية لتحقيق الاستقرار في سعر صرف الدولار. وأشار إلى أن "الفجوة المستمرة بين السعر الرسمي والسوق الموازي لا تزال تؤثر سلبًا على الاقتصاد العراقي"، مؤكدًا أن الحكومة والبنك المركزي لم يتمكنا خلال السنة ونصف الماضية من تحقيق الهدف المستهدف لسعر الصرف عند 1300 دينار لكل دولار، مما أدى إلى خسائر اقتصادية كبيرة.
وأوضح الهاشمي لـ(المدى)، أن "النظام المالي العراقي يعاني من تركز عمليات التحويل الخارجي في عدد محدود من المصارف، حيث تعتمد الدولة على أربعة إلى خمسة مصارف فقط عبر نظام تعزيز الأرصدة باستخدام البنوك المراسلة الأجنبية"، وهو ما وصفه بأنه "عنق زجاجة يهدد استقرار الأسواق". وأكد أن قلة المصارف القادرة على تنفيذ التحويلات الخارجية تؤدي إلى تراجع حجم الدينار المتاح للحكومة لتغطية الرواتب والإعانات، كما تسهم في انخفاض عرض الدولار، مما يدفع التجار إلى اللجوء إلى السوق الموازي، وبالتالي ارتفاع قيمته.
وانتقد الهاشمي بطء استجابة البنك المركزي العراقي في توسيع قاعدة المصارف التي يمكنها تنفيذ التحويلات المالية الخارجية، معتبرًا أن هذا التأخير يؤدي إلى استمرار أزمة سعر الصرف. كما حذر من التداعيات المحتملة للقيود والعقوبات الأمريكية على بعض المصارف والكيانات الاقتصادية العراقية، مشيرًا إلى أن أي إجراءات جديدة من الفيدرالي الأمريكي قد تزيد من مستوى الطلب على الدولار وترفع أسعاره. وشدد الهاشمي على الحاجة الملحة لإصلاحات مصرفية عاجلة، داعيًا إلى اتخاذ إجراءات أكثر فاعلية لضمان استقرار سعر الصرف ومنع تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.
أسباب استمرار الدولار بالارتفاع؟
يرى الدكتور نوار السعدي، أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة بوخارست برومانيا، أن أحد العوامل الرئيسية وراء ارتفاع قيمة الدولار مقابل الدينار العراقي هو استمرار القيود الأمريكية المفروضة على تدفقات الدولار إلى العراق. وأوضح أن وزارة الخزانة الأمريكية فرضت إجراءات رقابية صارمة على التحويلات المالية، مما زاد من تعقيد الحصول على الدولار، وأجبر المصارف العراقية على الامتثال لمتطلبات تدقيقية مشددة، الأمر الذي أدى إلى تقليل المعروض من الدولار في السوق الرسمي.
وأضاف السعدي لـ(المدى)، أن "الطلب على الدولار في العراق يشهد ارتفاعًا مستمرًا، خاصة من قبل التجار والمستوردين الذين يحتاجون إلى العملة الصعبة لإتمام معاملاتهم التجارية الخارجية. هذا الطلب المتزايد دفع العديد منهم إلى اللجوء إلى السوق الموازي، حيث تكون الأسعار أعلى بكثير من السعر الرسمي، ما أدى إلى تفاقم الفجوة بين السوقين".
ولم تتوقف المشكلة عند هذا الحد، بل أشار السعدي إلى ظاهرة تهريب الدولار إلى دول الجوار، خصوصًا تلك التي تعاني من عقوبات دولية، مما يفرض ضغطًا إضافيًا على سوق الصرف العراقي. وأوضح أن جزءًا كبيرًا من الدولارات المتاحة يتم تهريبه بدلًا من أن يبقى داخل السوق المحلي، وهو ما يزيد من تعقيد الأزمة الاقتصادية.
وفيما يتعلق بالإجراءات التي يتبعها البنك المركزي العراقي، أوضح السعدي أن "البنك قام بضخ كميات كبيرة من الدولار عبر نافذة بيع العملة، إلا أن المشكلة لا تكمن فقط في توفر العملة، بل في آلية توزيعها وضمان وصولها إلى الجهات التي تحتاجها فعلًا"، كما أكد على ضرورة تحسين كفاءة النظام المصرفي العراقي وتسريع إجراءات التحويلات المالية المشروعة لتقليل التعقيدات البيروقراطية التي تؤثر على تدفق العملة الصعبة.
وأشار السعدي، إلى أن "الأزمة الاقتصادية الحالية لا تقتصر على الجوانب النقدية فقط، بل تمتد إلى تحديات هيكلية أوسع، مما يستدعي تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة، تشمل تقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز الإنتاج المحلي"، وأضاف أن استمرار الفجوة بين السعر الرسمي والموازي قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة، مما يجعل التوقعات بارتفاع الدولار مقابل الدينار العراقي قائمة في ظل الظروف الراهنة.