هادي عزيز علي
السلطة القضائية الضامن الاساس لوصول الحقوق الى اصحابها كما انها القادرة على تفعيل انظمة المساءلة والرقابة وان ادراك هذه الاهداف لا يتم الا من خلال عنصرين اولهما سيادة القانون بمفهومه العام اي خضوع الاشخاص كافة بما في ذلك السلطات العامة لحكم القانون والعنصرالثاني وجود قضاء مستقل ومحاكم تتوفر لها الصلاحيات المطلوبة لكي تسهر على حماية القانون واحترامه وانفاذه. القول باستقلال القضاء لا يقصد به ميزة تضاف الى هيبة القضاء ووقاره وانما هو حق من حقوق الانسان تضمنته دساتير الدنيا بمرجعيته التي تعود للاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي ينص على: (ان يحاكم الانسان امام محكمة مستقلة عادلة). القضاء العالي (الدستوري) معني بالحماية الدستورية للحقوق والحريات كونها تعد من اهم الدعائم الدستورية للقانون. لكن القانون يفقد دستوريته اذا بنيت احكامه فيما يخالف ذلك والمواطن وحده من يتحمل الاثار السلبية لذلك. وتجسيدا لهذا الفهم نورد حكما قضائيا لمجلس الدولة الفرنسي الذي احدث هزة ليس في فرنسا وحدها بل في اوربا والعالم اجمع.
خلاصته: في بداية ستينات القرن الماضي كانت الثورة الجزائرية على ذروتها اذ كانت تشكل مأزقا ثقيلا للسلطات الفرنسية وكانت السلطات تبحث في كل السبل الممكنة للمواجهة فأقترح الجنرال ديغول على مجلس الدولة مشروع قانون استفتائي يضمن له كرئيس للجمهورية انشاء محكمة عسكرية استثنائية خاصة لمحاكمة مرتكبي بعض اعمال الشغب ضد القوات الفرنسية وغيرها التي تحدث في الجزائر. الجنرال اذن يطلب صلاحيات تشريعية اضافة لصلاحياته الاخرى، طلب الجنرال هذا يحيلنا الى قول مونتسكيو في مؤلفه الشهير (روح الشرائع): (اذا اجتمعت في قبضة يد واحدة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، انعدمت الحرية). عليه فان مجلس الدولة وامام هذا المقترح ابدى رأيه مقترحا عدم الموافقة على السير في هذا المشروع اصدرقراره بعدم السير في هذا المشروع لعدم دستوريته وقانونيته فضلا عن كونه غير ملائم للظروف السياسية التي تمر بها فرنسا حينئذ.
مقترح مجلس شورى الدولة هذا لم يخطب ود الجنرال ديغول وعده تدخلا من المجلس في الشأن السياسي والسياسة تقع خارج نطاق صلاحيات المجلس، ويرى ان اعضاء المجلس معينين من قبل الحكومة فكل واحد منهم موظف لدى الحكومة ومن ثم فان قضاته هم مجرد موظفين، ويرى الجنرال ان مقترحه هذا يندرج ضمن حقه في المجال الاستشاري هذا الانطباع دفعه الى المضي في مشروعه اذ ذهب بمشروعه الى الاستفتاء وقد تم الاستفتاء فعلا الذي ايده الشعب الفرنسي حينئذ وفي ضوء نتيجة الاستفتاء كان له ما اراد اذ اصدر مرسوما اشتراعيا - على وفق احكام صلاحياته حسبما يظن – تم بموجبه انشاء محكمة عسكرية مهمتها محاكمة بعض مرتكبي اعمال الشغب وغيرها من الاعمال، وقد انشأت المحكمة العسكرية فعلا بتاريخ الاول من شهر ايلول استنادا لذلك المرسوم 1962.
باشرت المحكمة اعمالها، ومن بواكير تلك الاعمال قضية السيد (كانال) وجماعته التي احيلت الى المحكمة لارتكابهم افعالا تدخل ضمن نطاق صلاحيات المحكمة المذكورة وتم اجراءات المحاكمة على وفق ماهو معروف في المحاكم الاستثنائية الخاصة التي تتمتع بصلاحيات لا يعرفها القضاء العادي اذ عادة ما تتسم بالعجلة بغية الوصول سريعا الى نتيجة الحكم وفعلا كان له ذلك اذ اصدرت المحكمة حكمها المؤرخ في 17 أيلول 1962 القاضي باعدام السيد (كانال) وجماعته وتم تحديد يوم 20 أيلول 1962 موعدا لتنفيذ الحكم وهنا يلاحظ هنا المدة الزمنية الوجيزة جدا منذ تاريخ اصدار المرسوم الاشتراعي فتشكيل المحكمة واجراء المحاكمة فصدور الحكم والمدة المحددة لتنفيذه.
طعن السيد (كانال) وجماعته بالمرسوم الاشتراعي لدى مجلس الدولة – ضمن المدة القانونية – على اعتبار ان رئيس الجمهورية لا يملك الصلاحيات المطلوبة لاصدار التشريعات وعليه يكون صدور مرسومه خارج نطاق صلاحياته كونه فاقد لتلك الصلاحية. وضع مجلس الطعن موضع التدقيق والمداولة بين اعضائه ووضعوا دستور الجمهورية الرابعة امامهم واطلعوا على الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية من الوجهة القانونية والدستورية فضلا عن الصلاحيات الممنوحة لمجلس الدولة - باعتباره محكمة دستورية عليا - اذ اصدر حكمه الشهير بتاريخ 19 أيلول١٩٦٢المتضمن ابطال المرسوم الاشتراعي الصادر عن رئيس الجمهورية المطعون به لعدم دسوريته، المفارقة ان حكم ابطال المرسوم الصادرعن مجلس الدولة صدر عشية الموعد المفترض لتنفيذ حكم الاعدام اذ رحلهم حكم مجلس الدولة الى رحاب الحرية بدلا من غياهب الموت. الجنرال ديغول بحجمه السياسي والنضالي وبكل احترام وطاعة انحنى للحكم من حيث الالتزام والتنفيذ.