علي حسين
عندما تشاهد على شاشات التلفزيون، ما يقوله بعض خبراء الاقتصاد عن المبالغ "المليارية" التي تصرف على راحة السياسيين والنواب ومقاولاتهم ، ماذا يخطر ببالك؟ لا ادري، أما انا فيخطر لي ان ارفع برقية اعجاب وتقدير لهذه النفوس التي لا تريد ان يغادرها الحنين الى "لفلفة" المال العام.
تشكل تصرفات بعض المسؤولين إدانة أخلاقية ليس لجوهر العمل السياسي فقط، بل للكيفية التي يتعامل بها البعض مع مفهوم ادارة مؤسسات الدولة، أصبحنا نقرأ ونسمع عن مسؤولين فاسدين وظفوا موازنة دوائرهم لمنافعهم الشخصية، وغادروا من غير أن يتركوا منجزا واحدا يذكر الناس بما يجري.
تقدم لنا حكاية ساسون حسقيل الاقتصادي والرجل المالي الكبير الذي تولى وزارة المالية خمس مرات في أوائل تأسيس المملكة العراقية، أنموذجا للتفاني والنزاهة فالرجل ومن شدة حرصه على المال العام قد ذهب اسمه مثلا، فتجد العراقيين يقولون لمن يتشدد في امور المال "يمعود لتحسقلها زايد"، يكتب علامة بغداد جلال الحنفي في كتابه معجم الألفاظ العامية البغدادية: "ارتبطت مفردة حسقلة بوزير المالية ساسون حسقيل الذي عرف عنه حرصه الشديد على ميزانية الدولة العراقية وتشدده في امور الصرف".
ويقول عبود الشالجي في موسوعته "الكنايات البغدادية" أن مفردة حسقلها جاءت من كلمة حسقيل وهو اول وزير مالية عراقي عرف بتشدده ومحاسبته في كل ما يتعلق بشؤون المال.
ولعل من أشهر الروايات عن الوزير ساسون حسقيل ما جرى بينه وبين ناجي السويدي حول مبلغ "45" دينارا والتي كانت ضمن التخصيص المالي الذي قدمه السويدي الى وزير المالية لترميم بناية "القشلة" التي كانت انذاك ثكنة عسكرية:
السويدي: سيد حسقيل لماذا اقتطعت (45) دينارا من الـ (300) دينار المخصصة لترميم بناية القشلة وفق تخمينات المهندس المسؤول.
ساسون حسقيل: يا سيد ناجي أفندي ناقشت هذه المسألة مع المهندس في موقع العمل ودار بيني وبينه حديث طويل وتوصلنا الى نتيجة مفادها بأن (255) دينارا تفي بالغرض.
ناجي السويدي: خلف الله عليك ساسون أفندي اليس بالإمكان اعادة مبلغ التخمين الى (300) دينار. ان القشلة من المعالم التاريخية لبغداد.
ساسون: سيدنا الحفاظ على المعالم التاريخية في بغداد يجب ان يكون متوازيا مع الحفاض على المال العام.
وبعيدا عن الإهدار فالإهدار يجعل من المال (سائبا) والمال السائب يعلم السرقة ولاعجب ان تخرج بغداد باسرها تشيع جنازة الوزير ساسون يتقدمها الرصافي راثيا:
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت
بغــداد أمّ المجد تبلى وتندب
ولا غــرو ان تبكيــه اذ فقــدت به
نواطق أعمالٍ عن المجد تُعرب
يتوقف المواطن العراقي وهو يسمع عن الازمة المالية التي تمر بها البلاد ويسأل ماذا حدث لمداخيل النفط، في ظل الفساد خلال السنوات الماضية، وماذا صرف منها على الشعب، وماذا نُهب وهرب خارج البلاد؟ .