TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أزمة العراق المناخية على ضوء الموازنات الاتحادية

أزمة العراق المناخية على ضوء الموازنات الاتحادية

نشر في: 20 فبراير, 2025: 12:03 ص

خالد سليمان

ضمن مشروع رفع الإيرادات بحلول 2028 من المتوقع أن يزيد العراق إنتاجه من النفط الخام إلى 6 ملايين برميل يوميا، ويبلغ انتاج البلاد للخام في الظروف الطبيعية 4.6 برميل يومياً. تم الإعلان عن هذه الخطة في شهر أيلول (سبتمبر) 2024 من قبل وزارة النفط العراقية كما نشرتها وكالات الإعلام. للوهلة الأولى، ان دلّ هذا الإعلان عن شيء إنما يدلّ عن ان تنويع مصادر الدخل الوطني في ظل سطوة النفط لازال غائباً ولا يحتل الأولوية في سياسات البلد الاقتصادية والتنموية. ويقتضي مشروع زيادة إنتاج الخام بطبيعة الحال، توسيع البنى التحتية لإنتاج النفط والغاز الطبيعي المصاحب، مما يمنح وزارة النفط حصة الأسد في الموازنات السنوية. يذكر ان حصة وزارة النفط من الموازنة الاتحادية للدولة تحتل أعلى القائمة حيث تقارب 15 في المئة بما في ذلك الرأسمال والاستثمار، تليها وزارة الكهرباء بنسبة 10.74 في المئة. وتساهم الوزارتان في قدر كبيرة من الانبعاثات والتلوث البيئي، خاصة في ظل الاعتماد بشكل واسع على المولدات لتوليد الطاقة.
تزامن الإعلان ذاك مع الاستعدادات لإجراء الاحصاء السكاني العام في البلاد والذي تأخر لثلاثة عقود من الزمن. وقد أظهر التوزيع الجغرافي للتعداد السكاني الذي أجري في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 أن حوالي 70.3% من السكان يعيشون في المناطق الحضرية، بينما يعيش ما يقارب% 29.3 من السكان في المناطق الريفية. وبلغ عدد سكان العراق وفقاً للنتائج الرسمية للإحصاء 45 مليون نسمة، فيما يتوقع ان يصل عدد سكان الى 80 مليون في تخوم عام 2050. وعلى الرغم من جميع التحديات التي واجهها البلد، أظهر التعداد أن النمو السكاني تصاعد بشكل ملحوظ وتضاعف عدد السكان ثلاثين السنة الماضية. كما تشير البيانات الى ان نسبة كبيرة من السكان تقع ضمن الفئة العمرية العاملة، مما يمثل قوة ضاغطة على قطاعات الخدمات العامة وسوق العمل والبنى التحتية للمدن.
على ضوء التوزيع السكاني من الناحية العمرية والجغرافية تأخذ البنى التحتية للمدن مثل المياه، الكهرباء، شبكات الصرف الصحي ومعالجة النفايات الأولوية في رسم السياسات العامة، الأمر الذي يتطلب توسيعاً هائلاً في البنى التحتية الخدمية، بخاصة ان ما يقرب 70 في المئة من السكان يعيشون في المدن. وتضاف الى ذلك أهمية تطوير البنى التحتية الزراعية والمائية المسؤولة عن توفير الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي.
يرتبط الأمران (زيادة انتاج النفط والتكاثر السكاني) ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، لأنهما يزيدان الطلب على المياه والموارد الطبيعية الأخرى بالدرجة الأولى، بينما تعاني البلاد من شح كبير في المياه والموارد الطبيعية المتجددة الأخرى. بناءً على دراسات موثوقة أدى التحكم في المياه من خلال السدود الضخمة التي تبنيها البلدان الواقعة على ضفاف الأنهار (تركيا وإيران) في غياب الاتفاقيات الاستراتيجية إلى خفض إمدادات المياه لحوض نهري دجلة والفرات، مما أدى إلى قطع أكثر من 70% من المياه العذبة.
وقد تأثرت قطاعات الري والزراعة، الثروة الحيوانية، النظم البيئية، والتنمية الاقتصادية بهذا التراجع الكبير في التدفق المائي من خارج الحدود الوطنية، ناهيك بالآثار الناحمة عن تغير المناخ على جميع القطاعات المذكورة. وتشير التوقعات العلمية الى ان تراجع الهطول المطري في المنطقة يتضاعف، وقد يلامس هذا التراجع 50 في المئة في العقود القادمة، الأمر الذي يزيد من آثار الأزمة البيئية على قطاعات الزراعة والصحة والبنى التحتية.
ان انتاج كل برميل نفط يحتاج الى 3-5 براميل من المياه العذبة، مما يقتضي توفير 20-30 مليون برميل من المياه العذبة يومياً حين يتم رفع مستوى انتاج النفط الى 6 مليون برميل. يضاف الى ذلك توليد المزيد من انبعاثات الكربون الى الغلاف الجوي، مما يثقل كاهل العراق ليس اقتصادياً وزراعياً فحسب بل بيئياً ومناخياً أيضاً، لا سيما ان التحول الديموغرافي الكبير الذي شهدته البلاد في السنوات الثلاثين الأخيرة، مدفوع بالمزيد من الطلب على البنى التحتية والخدمات العامة بما في ذلك شبكات الصرف الصحي وتطوير قطاعي الصحة والتعليم.
ولكن ما الذي فعلته الحكومية العراقية أمام هذه التحديات، وما هي القطاعات الرئيسية التي من المفترض ان تساهم في استراتيجيات التخفيف والتكيف أمام آثار مخاطر تغير المناخ وطنياً وعالمياً؟ بما ان العمل المناخي يقوم على المعالجة المشتركة بين المؤسسات والوكالات الحكومية وعبر قطاعات متعددة، لا تكمن الإجابة على مثل هذا السؤال في السياسات البيئية وحدها، بل تكمن في سياسات جميع وزارات الحكومة. وهناك بطبيعة الحال وزارات تشكل المفاتيح الرئيسية في تطبيق سياسات التخفيف والتكيف، ذلك ان تكلفة الفاتورة البيئية-المناخية تشمل جميع مناحي الحياة الاقتصادية والزراعية والصحية.
وبالتالي، تستوجب أزمة العراق البيئية إعادة التفكير في وضع السياسات على أسس بينية وتكاملية قادرة على الاستجابة المرنة للأحداث المناخية وآثارها على المجتمعات والنظم البيئية. ولكن على الرغم من أهمية المساهمة البينية للوكالات الحكومية في لجم التطرف المناخي والحد من الخسائر الناجمة عنه، لا يزال العمل المناخي متفرق في العراق عدا ان هامشيته وعدم إعطاء الأولوية له في السياسات الوطنية. وتشير بعض الدراسات الى ان هناك أكثر من 200 جهة حكومية وغير حكومية فاعلة في صنع القرار، بما في ذلك القرارات المتعلقة بالبيئة مما يترك الاستراتيجية البيئية في حالة هشة وغير مستدامة.
تظهر موازنة العراق في السنوات الثلاث الأخيرة تفاوت كبير في حصص وزارات تم اختيارها لجهة دورها في تفاقم أزمة المناخ وفي استراتيجيات التخفيف والتكيف المناخية في آن واحد. على سبيل المثال تأتي حصص وزارتي النفط والكهرباء في أعلى قائمة الميزانية، بينما لا تشكل حصص وزارتي الموارد المائية والبيئة إلاّ جزءاً قليلاً من الميزانية الاتحادية، وكذلك الأمر بالنسبة لوزارات الاعمار والإسكان والبلديات العامة، التعليم العالي والبحث العلمي، النقل، الزراعة. (انظر الى الرسم البياني التالي)
كما يلاحظ فإن وزارة البيئة هي من بين الوزارات الأقل شأناً اذ لا تتجاوز ميزانيتها 0.08 في المئة. أما وزارة الزراعة، فعلى الرغم من الدور المنوط بها في تحسين الواقع الزراعي والأمن الغذائي فإن ميزانها لا تتجاوز 2 في المئة مما يحول دون تنفيذ الخطة الزراعية الحكومية المعلن عنها في عام 2023. وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الموارد المائية التي تحتل المرتبة الأقل شأناً من ناحية تخصيص الميزانية السنوية العامة بعد وزارة البيئة.
يعد النقل والمواصلات العامة من القطاعات المؤثرة على المناخ والبيئة، بخاصة على ضوء النمو السكاني الذي يتطلب المزيد من الطاقة والبنى التحتية للنقل والاتصال المتكامل داخل وخارج البلد. مع ذلك لا يرتقي التخصيص المالي لوزارة النقل الى مستوى التحول الكبير الذي تشهده البلاد من ناحية التوسع العمراني-السكاني والنشاط البشري، التجاري والاقتصادي. وعلى الرغم من ان حصة وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة، تفوق حصص الوزارات المذكورة باستثناء النفط والكهرباء، الا ان البيئة لا تدخل ضمن استراتيجية علمها. علماً انها مسؤولة عن توفير المياه الصالحة للشرب ومعالجة مياه الصرف الصحي والنفايات، شبكات الطرق البلدية، استعمالات الأرض والتخطيط العمراني. الخ.
وتدخل جميع المجالات المذكورة في صلب العمل المناخي، ذلك ان تحديث البنى التحتية مثل كفاءة استخدامات المياه، شبكات الصرف الصحي، التخطيط العمراني ومعالجة النفايات وفق المعايير البيئية-الدولية، لا تساهم في خفض الانبعاثات فحسب، بل هي بمجملها مساهِمة كبيرة في التنمية المستدامة. ويقارب التخصيص المالي للوزارة 2.83 في المئة في الموازنة الاتحادية، انما ومن خلال نظرة فاحصة على مشاريعها في المجالات المذكورة، باستثناء الإشارة الى مراعاة المعايير البيئية في تشييد الأبنية والمجمعات السكنية، لا يجد المتابع ما يتعلق بالاستثمار البيئي في البنى التحتية لشبكة مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة مثلاً.
وتجدر الإشارة في نفس السياق الى غياب دراسات علمية تُبين خطة العراق لاجتياز أزمته البيئية-المناخية التي تشير الى مستقبل غير مضمون في حال ابقاءها في هامش السياسات الحكومية. ويعود سبب ذلك الى ان التخصيص المالي لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي لا يرتقي الى المسؤولية العلمية والأكاديمية المنوط بهذه المؤسسة التي من المفترض ان تكون المساهم الأكبر في استشراف المستقبل عبر الدراسات والبحوث العلمية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بينهم عراقيون.. فرار 5 دواعش من مخيم الهول

هزة أرضية ثانية تضرب واسط

الصدر: العداء مع أمريكا أبدي ما دام ترامب موجوداً

البيت الأبيض: المساعدات الأمريكية أنقذت زيلينسكي من الموت

إدارة ترامب تطلب من العراق استئناف نفط الإقليم أو مواجهة العقوبات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: حيرتنا بين لا ونعم!!

العمود الثامن: دمشق صادق جلال العظم

قناطر: سؤالُ الشعر.. سؤالُ الحياة

قناديل: توابلُ (دان براون) الروائية

العمود الثامن: آخر نكاتنا !!

العمود الثامن: تعريف المواطنة

 علي حسين معظم احزابنا لديهم حساسية من القوى المدنية، إلى درجة أن أحدهم خرج علينا يومًا ليقول، بالحرف الواحد، "لقد سحقنا التيار العلماني وسيظل تابعًا للتيار الديني إلى أمد بعيد"، وكان صاحب هذه...
علي حسين

كلاكيت: اترك العالم وراءك

 علاء المفرجي اترك العالم وراءك هو فيلم إثارة نفسية أمريكي صدر عام 2023 من تأليف وإخراج سام إسماعيل. وهو مستوحى من رواية رومان علم التي صدرت عام 2020. الفيلم من بطولة جوليا روبرتس...
علاء المفرجي

أزمة العراق المناخية على ضوء الموازنات الاتحادية

خالد سليمان ضمن مشروع رفع الإيرادات بحلول 2028 من المتوقع أن يزيد العراق إنتاجه من النفط الخام إلى 6 ملايين برميل يوميا، ويبلغ انتاج البلاد للخام في الظروف الطبيعية 4.6 برميل يومياً. تم الإعلان...
خالد سليمان

مكرم الطَّالبانيّ: المخضرم السّياسيّ الأخير

رشيد الخيون عاصر المحامي والوزير مكرم الطَّالبانيّ(1923-2025) عهود الدَّولة العراقيَّة كافة؛ مِن العهد الملكيّ(1921-1958)، والجمهوريّ بانقلاباته(1958-2003)؛ وفي العهود كافة: كان إمَّا سجيناً، وحزبياً تحت الأرض، أو وزيراً. أحد المحامين(1947) عن يوسف سلمان يوسف(فهد/ اُعدم1949)،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram