TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > إنقلاب البعث في 8 شباط 63... ماذا بعد؟

إنقلاب البعث في 8 شباط 63... ماذا بعد؟

نتاج وكالة المخابرات المركزية الأمريكية..

نشر في: 23 فبراير, 2025: 12:03 ص

عصام الياسري

بعد منتصف الليل بقليل بالتوقيت المحلي، قامت في الثامن من شباط عام 1963 عناصر من القوات المسلحة والقوى الرجعية وحزب البعث بدعم أمريكي، بانقلاب على النظام الوطني في العراق. مع مرور الذكرى الثانية والستين تعود إلى الواجهة سرديات انقلاب شباط المشؤوم والعراق لا زال يضمد جراحه ويحمل على كاهله مشقات ستة عقود عجاف من الظلم والألم والبؤس والدمار والتخلف.
في ذلك اليوم الأسود من 8 شباط تمكن حزب البعث في العراق من تنفيذ انقلاب عسكري لإجهاض ثورة الرابع عشر من تموز 1958 والإطاحة برئيس الوزراء الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم وشكلت حكومة صورية منح عبد السلام عارف، الذي لم يكن بعثيا، لقب الرئيس الشرفي إلى حد كبير، كما عين الجنرال البعثي أحمد حسن البكر رئيسا للوزراء. والأمين العام لحزب البعث، علي صالح السعدي، أحكم سيطرته على ميليشيا الحرس القومي، التي كان يقودها منذر الونداوي، لترسيخ نفسه باعتباره الزعيم الفعلي الجديد للعراق، وكان يتمتع في الواقع بسلطة أكبر من تلك التي يتمتع بها البكر أو عارف. واستمرت حكومة الانقلاب حوالي تسعة أشهر، حتى قام عارف في نوفمبر/ تشرين الثاني 1963 بانقلاب أعقبه تطهير لأعضاء حزب البعث ونزع سلاح الحرس القومي الفاشي. وقد وصف حكم السعدي وفرعه المدني من حزب البعث الذي دام تسعة أشهر بأنه "عهد الإرهاب"، حيث تولى الحرس القومي، بموجب أوامر من مجلس قيادة الانقلاب، إبادة كل من "يخل بالأمن"، واعتقال وتعذيب وإعدام الآلاف من المشتبه في ولائهم لقاسم ومن واجه الانقلابيين. علاوة على ذلك، كان الحرس القومي، الذي نشأ من مجموعة أساسية تضم ربما 5000 وزاد إلى 34000 عضو بحلول أغسطس 1963 من أنصار البعث المدنيين الذين تم التعرف إليهم من خلال شعاراتهم الخضراء، ضعيف الانضباط، إذ انخرط أفراد الميليشيات في اقتتال داخلي وخلق مشهد واسع النطاق للفوضى والاضطراب...
وكانت قد انتشرت إشاعات مفادها أن عددا من أعضاء حزب البعث كان يخطط لانقلاب منذ عدة أشهر. وإن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت على دراية بالانقلاب وهدفه إسقاط النظام الوطني وتصفية الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه.
إلا أن أعضاء آخرين كانوا قد شعروا بأنهم إذا ما أرادوا القيام بمثل هذا الانقلاب فإنهم لا بد وأن يقوموا به الآن، وتم ـ بالفعل - القيام بذلك. وكانت الإشاعات عن أن الانقلاب بطبيعته قد يكون لمصلحة عبد الناصر إلا أن أعضاء وزارة الخارجية الأميركية كانوا يعتقدون أن هذا ربما يكون مبالغا فيه بعض الشيء. حيث كان حزب البعث قد أعلن قبل الانقلاب بعدة أشهر عن برنامج متقن للغاية (حضي باهتمام السي آي أي) إذا ما تولي البعث فيه الحكم، وبأن العلاقات قد تتحسن بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق، لكن هدفه سيكون في المقام الأول ذا طبيعة لا يمكن وصفها بأنه انقلاب لمصلحة ناصر. إذ إن اغتيال قائد القوات الجوية جلال الأوقاتي الذي يقال إنه كان شيوعي، سيدعم معاداة الشيوعية وهو الهدف الذي تبتغيه الإدارة الأمريكية من وراء الانقلاب.
كانت ثورة تموز 58 قد غيرت تاريخ العراق وأنجزت خلال مدة قياسية لا تتجاوز الخمس سنوات العديد من الإصلاحات الإدارية والمجتمعية والقانونية والتنموية، وأصدرت العديد من القوانين العصرية المتعلقة بحرية الرأي والتعبير وحقوق المرأة والطفولة، كذلك قوانين استراتيجية تتعلق بالأحزاب والجمعيات والإصلاح الزراعي والإعمار والتنمية البشرية، ما لم تحققه الدولة العراقية منذ تأسيسها ولغاية اليوم.
وبعد مدة خمس سنوات من نجاح حركة الضباط الأحرار إسقاط النظام الملكي في 14 تموز عام 1958 وتحويل الدولة العراقية إلى جمهورية، بدأت علامات الخلاف بين الحركات السياسية والأحزاب القومية وفلول الإقطاع من جهة، وحركة الضباط الأحرار ومعها القوى والأحزاب التقدمية من جهة، تظهر، عندما دعت القوى القومية العربية بقيادة عبد السلام عارف وحزب البعث إلى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. وفي محاولة لخلق حالة من التوازن السياسي، حاول الحزب الشيوعي العراقي، الذي عارض الوحدة، تعزيز التعاون مع الجمهورية العربية المتحدة في الاقتصاد والثقافة والعلوم بديلا عن الاتفاقيات السياسية والعسكرية. وتدريجيا، توترت العلاقات بين بعض الأعضاء في حركة الأحرار والتيارات الوحدوية والقومية، التي لعبت دورا نشطا للتقارب مع جمهورية مصر بهدف الوحدة بينهما على حساب المصالح الوطنية للعراق.
بدأت مراحل التخطيط للانقلاب في عام 1962 وجرت محاولات عدة تم التخلي عنها خوفا من اكتشافها وكان مخطط للقيام بالانقلاب في البداية في 18 يناير، تم نقله إلى 25 يناير ثم 8 فبراير بعد أن علم الزعيم قاسم بالمحاولة واعتقال بعض المتآمرين في الصباح الباكر من يوم 8 فبراير 1963، بدأ الانقلاب عندما اغتيل قائد القوات الجوية جلال الأوقاتي، واحتلت وحدات الدبابات محطة راديو أبو غريب، عنئذ اندلعت معركة مريرة استمرت يومين مع قتال عنيف بين المتآمرين البعثيين والقوات الموالية للحكومة.
وكان هناك شكوك بأن حزب البعث تعاون مع وكالة المخابرات المركزية في التخطيط للانقلاب وتنفيذه منذ مدة طويلة. إلا أن الوثائق المعاصرة ذات الصلة بعمليات وكالة المخابرات المركزية في العراق، التي ظلت سرية لغاية عام 2021، تكشف عن مدى تورط الولايات المتحدة في تنظيم الانقلاب.
في مذكرة من ستيفن من مكتب شؤون الأمن الدولي بوزارة الدفاع الأمريكية إلى نائب مساعد وزير الدفاع في 8 فبراير 1963 جاء: [المعلومات المتوفرة حاليا لم تؤكد أن قاسم قد مات ـ بالفعل ـ وقد تم إنشاء مجلس يتكون من ستة ضباط، عقيد واحد، ونقيبين وثلاثة ملازمين. وتم التعرف على بعض أعضاء هذا المجلس على أنهم أعضاء في حزب البعث].
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد أعدت رسالة إلى الحكومة الجديدة بمجرد تأكيد نجاحها، تطلب فيها حماية كل أفراد القوات الأمريكية، وإصدار الحكومة الجديدة بيانا تحاول فيه تلبية متطلبات الولايات المتحدة مقابل الاعتراف المبكر بالانقلاب. والواقع أن الإجماع بين أعضاء وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، هو، أن نجاح الانقلاب من شأنه أن يؤدي إلى تحسن العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق إلى حد كبير...
في صبيحة يوم الانقلاب في الثامن من شباط فبراير، أرسل المستشار روبرت كومر مذكرة إلى الرئيس كندي جاء فيها: [بينما لا يزال الوقت مبكرا، يبدو أن الثورة العراقية نجحت. ومن المؤكد أن هذا مكسب صاف لجانبنا]. واختتم: [[سنصدر أصواتا ودية غير رسمية بمجرد أن نتمكن من معرفة مع من نتحدث، ويجب علينا أن نتأكد من أن هؤلاء الرجال في وضع ثابت على السرج]]. وفي البرقية الدورية رقم 1383، بتاريخ 8 فبراير، أصدرت وزارة الخارجية تعليماتها إلى السفارة في لندن وبعض المراكز في الشرق الأدنى بإبلاغ الحكومات المضيفة بأن النظام العراقي الجديد لم يظهر أي مؤشر على النفوذ الشيوعي ويبدو أنه ذو توجه قومي بعثي في الأساس. ونصحت هذه المراكز الحكومات المضيفة بتجنب الإجراءات أو التصريحات التي قد تؤدي إلى تفاقم الوضع في العراق وقيام حركة مضادة للإنقلابيين.
من ناحية أخرى، كتب براندون وولف- هونيكوت أن [تورط وكالة المخابرات المركزية في انقلاب عام 1963 كان سرا مكشوفا لعقود من الزمن]، مستشهدا بأدلة دامغة على الدور الأمريكي، ووثائق تم رفع السرية عنها علنا "تثبت إلى حد كبير معقولية" تورط وكالة المخابرات المركزية. ويذكر إريك جاكوبسن، مستشهدا بشهادة بعثيين بارزين معاصرين ومسؤولين حكوميين أميركيين، أن "هناك أدلة كافية على أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية لم تكن على اتصال بحزب البعث العراقي في أوائل الستينيات فحسب، بل ساعدت أيضا في التخطيط للانقلاب". ويكتب ناثان جبه سيتينو أن [واشنطن دعمت الحركة التي قادها ضباط عسكريون مرتبطون بحزب البعث العربي الذي أطاح بقاسم]، ولكن "لا يمكن تحديد مدى مسؤولية الولايات المتحدة - بشكل كامل - على أساس الوثائق المتاحة"، وأنه ((على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تبدأ انقلاب 14 رمضان، إلا أنها في أفضل الأحوال تغاضت وفي أسوأ الأحوال أسهمت في العنف الذي أعقب ذلك)).
الحقيقة التي لا تقبل الجدل، أن قادة البعث حافظوا على علاقات داعمة مع المسؤولين الأميركيين قبل الانقلاب وأثناءه وبعده. وإن "ضباط الولايات المتحدة عملوا بجد على تنمية الفوضى برعاية إضراب طلابي في جامعة بغداد قبل الانقلاب بأيام".
ولا شك أن المسؤولين الأميركيين كانوا سعداء بنتيجة الانقلاب، ووافقوا في النهاية على صفقة أسلحة بقيمة 55 مليون دولار مع العراق وحثوا حلفاء أميركا العرب على معارضة هجوم دبلوماسي برعاية الاتحاد السوفييتي في الجمعية العامة للأمم المتحدة يتهم العراق بالإبادة الجماعية ضد الأقلية الكردية وتزويد وكالة المخابرات المركزية الحرس القومي بقوائم مكتملة بعناوين المنازل وأرقام لوحات سيارات الشيوعيين وغيرهم من الديمقراطيين، الذين تم اعتقالهم أو قتلهم تحت إشراف الونداوي والسعدي...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: دمشق صادق جلال العظم

العمود الثامن: تعريف المواطنة

العمود الثامن: آخر نكاتنا !!

باليت المدى: الجمال الذي تجاوزَ اختبار الزمن

ترامب غزة - ريفيرا الشرق الأوسط والنظام الدولي إلى أين ؟

العمود الثامن: محبة الاوطان

 علي حسين كلما يدور حديث عن المصالحة الوطنية التي تتحول مرة إلى المصالحة التاريخية، ومرة أخرى إلى المصالحة المستدامة، أتذكر الزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، وأخشى أن أسال: لماذا لايوجد مانديلا عراقيّ؟ لأنني...
علي حسين

قناديل: فتاةٌ هندية وأميرٌ لبناني

 لطفية الدليمي كتب الأمير شكيب أرسلان كتابه الأشهر (لماذا تخلّف المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟) عام 1930. صار الكتاب اليوم يُصنّفُ في عداد الكلاسيكيات التي من المفيد قراءتُها والإستئناسُ بأفكارها رغم أنّ مياهاً كثيرة...
لطفية الدليمي

إنقلاب البعث في 8 شباط 63... ماذا بعد؟

عصام الياسري بعد منتصف الليل بقليل بالتوقيت المحلي، قامت في الثامن من شباط عام 1963 عناصر من القوات المسلحة والقوى الرجعية وحزب البعث بدعم أمريكي، بانقلاب على النظام الوطني في العراق. مع مرور الذكرى...
عصام الياسري

معارك إيلون ماسك .. الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) نموذجاً

حسن الجنابي قرر الرئيس الأمريكي وصديقه، الوزير بدون مرتب، الملياردير إيلون ماسك، التخلص من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية "يو أس أيد". وهذه من أكبر الوكالات الأمريكية التي تسهم في نشر الوجود الأمريكي في بقاع...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram