الرئيسية > عام > معرض (تسليات القانط) لهاشم تايه.. مـ(هرج)ـان مشوهاتنا الداخلخارجية!؟

معرض (تسليات القانط) لهاشم تايه.. مـ(هرج)ـان مشوهاتنا الداخلخارجية!؟

نشر في: 7 إبريل, 2025: 12:25 ص

خالد خضير الصالحي
حين يصعد الدلّال، وهو المنادي في مزايدات ومناقصات (الهرج)، على دكة في معرض (تسليات القانط) في قاعة جمعية التشكيليين العراقيين في البصرة يوم 5 حزيران 2045، لينادي بصوته الجهوري: هرج واحد.. هرج اثنين.. فانه ينذر بان جلسة سوق الهرج هذه ستغلق! وهو ما فعله هاشم تايه في معرضه الذي أقامه قبل شهرين من نفس اليوم الذي استيقظ فيه العرب، والثقافة العربية، والأحزاب العربية، ليعترفوا انهم ليسوا الا جزءا من ثقافة مندحرة تشهد أيام انحسارها، وكما شبّهها ادونيس بانها "بحيرة اسماك يجف ماؤها"، فيعيد هاشم تايه، في ذات التاريخ الواخز، بإعادة كتابة التاريخ المهزلة، وتصوير شخوص: المـ(هرج)ـان الذي يوشك على الانتهاء (الانحسار)، او مهرجي (سيرك) هاشم تايه للمنمنمات الكاريكاتورية، وللتشويهات المتعمدة للكائن الإنساني كما وصفه القاص محمد خضير الذي يستطرد بان كائنات هاشم تايه قدمت من لاوعي اللحظة العراقية الراهنة، لقهر لا يُعوَّض بأي اعتبار؟.. في حشود من مسوخ وأقزام ومهرجين وشهوانيين هم "نحن" وقد نزعنا أردية الواقع اليومي ليقدنا الرسام في أيقوناته المزججةً والمصغرةً في بضعة سنتيمترات كي نلعب أدوارَ تاريخهِ المنسيّ المشوهِ المديد حتى القيامةِ/ السيرك، المعرض/ السيرك الذي هو ضيحتُنا لا أقل ولا أكثر.
يستخدم هاشم تايه نمطا من الابدالات حينما يصور الداخل بأدوات الخارج، ويصور الجِد بأدوات الهزل (الهرج)، والأسود القاتم لدواخل ابطاله (لا نشك اننا نحن ابطال فوضاه هذه)، بألوان تنتمي لاشتراطات الرسم أكثر مما تمتثل لاشتراطات (الحقيقة)، فيعطي الرسمُ الحقَّ لنفسه لتلوين او (مكيجة) دواخلنا رغما عن ارادتنا..
يتجنب هاشم تايه الاستطرادات التي تجْهز على تعبيرية اللحظة؛ لذلك فهو يلتجا الى مصغرات (منجرات) تخطيطية تمس الفكرات (الشخوص) مسّاً؛ فلا تبقي الا عناصرها الجوهرية في عجالة إنجازها، يخلّص هاشم تايه أعماله، وكائناته، من الشوائب الزائدة في الشكل، وهو توجه تقليلي يحاول الاكتفاء بأقل قدر من الخطوط الضرورية لبناء الشكل، وهي، في ذلك، تتماثل مع سرديات القصص القصيرة جدا التي تتلامس مع الواقع ملامسة سريعة فتتشابه مع تلامس تخطيطات هاشم تايه الملونة في معرض (تسليات القانط) هذا مع يوميات حياتنا.
كتبت قبل عقود عدة مقالات عن هاشم تايه، فعنونت أحدها بـ(عالم الرغبات السرية.. والحياة الهشة) حيث يتمتع أبطاله، واخص منهن الإناث اللواتي يتوفرن على سطوة وهيمنة وقدرة اميبية انشطارية، تحتل المساحة الأعظم من اللوحة، فتهيمن على المشهد، وينبثق منها او على وشك ذلك، او يلتصق بها، او يتسلقها، كائن بهلولي يتقافز حولها قردا صغيرا او كائنا شبيها به، وقد يلتصق بها كالقرادة أو يخرج من مكان منها كالثؤلول، كائنا صغيرا، طفيليا، قد يبدو مزعجا، ولكنه يبدو ضروريا لاكتمال وجودها!.
ان الخط، وهو العنصر الأهم عند هاشم تايه، ناتج قوة وجرأة تحرك النقطة التي خلقته، وكأنما قد بُرْمِجت لتعرف مسبقا خط سيرها المحفور على بياض الورقة، فيمتلك حدة، ووضوحا، وثقة ومقدرة على فعل كل شيء.
كما كان هاشم تايه في معرضه (حياة هشة) يلتقط (مواده) من: النفايات والشوارع؛ فتبدو مخيبة للكثيرين بسبب توحّشها، ونشازها، وغرابتها، ولوثتها، وتلوّثها، ها هو يلتقط مواصفات (كائناته) الان من المصدر ذاته، من الازقة الخلفية وقيعان المجتمع، تلك القيعان التي يقع عليها سوء فعل السياسيين واخطاؤهم وقذاراتهم التي ألقوها على الناس طوال (تجربتهم) القذرة.
تتمثل التقليلية عند هاشم تايه في نزوع شخصي للتجريب، وانتقاء اقل العناصر الكافية للتعبير بوعي خارج الأعراف الفنيّة وفي استضافته واستدعائه أية مادة في الحياة اليومية، واي شكل، واي تركيب تهديه مخيلته اليه.
يبني هاشم تايه منجزه بناءً قصديا حسب (قانون) التشاكل الصوري، بجمع عناصر من الصعب جمعُها، فكان ذلك الجمعُ (القسري) يخلق الانزياحَ الاستعاري الذي هو جوهرٌ للجمالي، كما هو جوهر للشعرية، وهي آلية استخدمها السورياليون: سلفادور دالي، وماكس ارنست..
مازالت تجربة هاشم تايه متخندقة في نفس المتاريس الأولى التي أسسها قبل قرابة الخمسة عقود حينما كنا نشارك في معارض نقابة الفنانين في البصرة أعوام الثمانينيات، فمازالت ثنائية البساطة والقوة فاعلة وتتواشج بالكفاءة السابقة ذاتها، ومازالت المقاربة السيكولوجية صالحة لدراسة شخصياته، كوجود وكترميزات لمظاهر داخلية من شخصية الرسام المشفّرة عبر كائنات متعددة، ومتناقضة في مواقفها، يبثها بشكل يغطي مساحة العمل.. وأخيرا، فقد ظلت (سلطة المادة) الجوهر الأكثر فاعلية في تجربته، ولم يتمكن السيد غاستون باشلار من تطبيق (قاعدته) العصية على الانطباق على هاشم تايه بـ"ان المبدعين يعيشون نصف حياتهم الثاني عالة على نصفها الأول".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

حلّق مع السراب: تفكيك السرد وانزياح المعنى

موسيقى الاحد: هندل الأكول

"رولد دال" والخيال العلميِّ

الصراع بين أيديولوجية الحضور والغياب في رواية (سفينة إسماعيل)

سعد الطائي: لست مهتماً بمخاطبة المشاهد للوحة وإنما بجعله ينظر إليها في كل بقعة

مقالات ذات صلة

متاهات وميكانيك الكم
عام

متاهات وميكانيك الكم

ألبرتو جِيْ. روخو* ترجمة: لطفية الدليمي يمكن صياغة السؤال المركزي في ميكانيك الكم والذي يلخّصُ معضلة القياس Problem of Measurement التي لم يتمّ حلّها بعدُ في سياق مثالنا على الكيفية التالية: إذا كانت كلٌّ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram