| القسم الثقافي |
البورتريت يختار الشاعر والفنان والسينمائي والمسرحي صادق الصائغ كأول شخصية فيه، والصائغ احد الرموز الثقافية العراقية التي بدأت مشوارها منذ بداية الخمسينيات في المجالات التي ذكرت، فقد بدأ في السينما ليتحول الى التشكيل والشعر والمسرح، لتكتمل شخصيته الثقافية بهذا الاجناس المعرفية.. في هذا البورتريت نحاول أن نسلط الضوء ولو بشكل مختصر عن شخصيته التي ملأت الثقافي العراقية لأكثـر من ستة عقود.
في اجابته عن سؤال عودته المبكرة الى بغداد، حيث كان الصائغ من أوائل العائدين إليها، والسؤال يحمل بين ثناياه بعضا من المؤثرات والمراجع التي أسهمت في تكوين شخصيته، يقول الصائغ:
لقـد عـدت، لأن كنـوزي الـروحيـة المـدفـونـة هنـا اسـتيقـظت دفعـة واحـدة بعـد سقـوط الـنــظـــام، وكـنـت قــبل ذلـك أتــســـاءل مـــاذا ستكـون هذه الـصحراء الـقاحلـة التي هي العــــراق لــــو لــم تـــسـكــنهــــا روح الـــســيــــاب والجــــواهــــري وعــبــــد الــــوهــــاب الــبــيــــاتــي والــرصــافي وجــواد سـليـم وسعــدي يــوسف وســركــون بــولــص وعــزيـــزعلـي ومحـمــود صبـري وفـاضل العـزاوي وجـان دمـو وفـؤاد التـكرلي ومـئات من المـشهورين والمـهمشين والصعـالـيك، ممن سـأعجـز بـالتـأكيـد عن تسطير اسمائهم هنا. كنت اثساءل: مـاذا لو مت ولم اسمع امي، تقـــرأ القـــرآن وتفـتــتح الـفجــر بــصـــوتهــا السـاحـر، او تخــاطب شبــابيك الأضـرحـة، وعـينـاهــا ملأى بـالـدمــوع، متــوسلـة بــأبي الجــــواديــن الـكــــاظــم والحــمـــــزة وشهــيــــد كربلاء، ليقوا عائلتنا شر البلاء؟، مـــاذا لـــو مـت دون ان ارى الــنخــيل، سـيـــد الشجر، سيـد الحزن، سيد الطـبيعة، سيد الغروب الذابل، سيد الأنهار العميقة؟ مـاذا لـو لـم اعثـر علـى بقـايـا سعــاداتي في درابـين جديـد حسـن باشـا وجريـدة البلاد، عــشـي الاول الــذي فـيه مــارســت الكـتــابــة والخــط والحــب الأول ومــن أجـله بـكــيــت وبكيت ولم يسمعني أحد؟!، مـــاذا لـــوحـــرمـت ذاكـــرتـي صـــورة حــسـين مـــــــردان، الـــطـفـل الــكــبــيـــــــر الـــطــيــب، ذو الأكــاذيـب الـبــريـئــة، أول مـن احـبـبـت مـن الــشعــراء المــشهــوريـن، يـتـمــشــى قــي ذلك الـــــــزقـــــــاق الـــضــيـق مـع صـــــــديـق عــمـــــــره عـبــدالمجـيــد الــونــداوي، مجـلجلًا بـصــوت عــــــالٍ، مــتـقـــصــــــدا ان اســمـعـه ويــــســمـعـه العابرون: " انا دكتاتور الادب"؟!!
مــــاذا لــــو لــم أتلـمــس، لـيـــس بعـيــــدا عـن ضـــــريح الـــســت زبــيـــــدة ومقــبــــرة الـــشــيخ معــــروف، حــيــطــــان مـحلـــــة"الإزرملــي" - الـدوريين الآن- واتجول بين درابـينها التي هدتهـا حرارة الـشمس والـزمن، متفقـدها بيتاً بيـتا وحجراً حجـراً ً، وعلى حيـطانها رســمــت حلــمــي الأول، وفي خـــــواصـــــرهـــــا قضيت طفولتي وصباي وشبابي ؟.! مــاذا لــو لـم أعـثــر علــى بقــايــا شعــاراتـي الــسـيـــاسـيــــة المعـــاديـــة لـلحـلف الـتـــركـي البـاكـستـاني وحلف بغـداد وحكـومـة نـوري الــسعـيــد والـتـي، بـيــدي هــاتـين، كـتـبـتهــا بـ"بويه" خضراء عـلى حيطان الحسينيات ومــــراكــــز الـــشــــرطــــة وحــيــطــــان الأفــــران ومـــــدارس الأطفــــال والــثــــانــــويــــة، والــتــي مــسحـتهــا يــد الــسلــطــة والـــريح والمــطــر وعوادي الزمن؟!!
مـاذا لـو لـم لم اجــد صنــدوقي الـسحـري، صـنـــدوق الـتـنـك الــصغـيـــر، المـــدفـــون في حــديقــة البـيت والــذي احتفـظت بــداخله بكـتبـي ومنـشــوراتي الـســريــة وقـصــائــدي الرومانسية الأولـى التي نشرت بعضها في مجلــة الآداب البيـروتيـة ومجلـة"الفنـون"، يــوم سـمح لـي صــاحـبهــا كــامــران حــسـنـي مخــــرج فلــم"سعـيـــد افـنـــدي" بـــأن أكـــون سكــرتيــراً لـتحــريــرهــا، وانــا لا ازال يــافعــاً وغــرا ً، وفي غــرفــة تحــريــرهــا، في مـطـبعــة الأمــة، في الحيـدرخـانـة، فـاجــأني الـسيـاب بـزيـارة قـائلًا: اريــد التعـرف علـيك، وكـنت اعـدت نشـر قصـيدته"غـريب علـى الخليج" في المجلـــة، دون إذن مــنه، وكـــان، حــسـبـمـــا قــال، قــرأ قــصـيــدتــي"العـنـــاق مع الــولــد دحــام" في مجلــة الآداب، فــرحـت اتــراجف امامه كالسعفـة، غير مصدق بأن السياب، بقـضه وقضـيضه، مـوجـود امـامي ويـطلب التعرف علي!!.
مـاذا لو ضـاع مني مـشهد اشـتراكي في اول مـظــاهــرة في حـيــاتـي عــام 1952 في شــارع الــكفــــاح، وكــنــت اشـــــارك، مع آخــــريــن، في حـمـل تخـت مـقهـــى خــشـبـي، رقــــد علـــى حــصيــرتـه متـظــاهــر اصـيب بــطلق نــاري، ومـن فـمه وانـفه خــرجـت فقــاعــات الــدم، فماعاد يستطيع التنفس؟!!.
نشيد الكركدن المولود الأول ابداعيا لصادق الصائغ والتي قال عنها الأديب نجيب المانع: "بعض الشعراء يمشون شعراً، يلـمسون فنجان القهوة بشاعـرية، صوتهم شاعري، حماسهم في الكراهية والحب شاعري (...) صادق الصائغ من هذا النوع. وحتى إن أنكر أنه شاعر كذبت قولته الطريقة التي يسأل بها عن الوقت."يقول عن نشيد الكركدن:
اعتقـد اني، مـنذ الـبدايـة، نشـأت كشـاعر بصري يميل بطبـعه الى ان يحول تجاربه الملـمــوســة الــى درامــا ذهـنـيــة، وأتـصــور أن الـعنــاصــر الـتي ذكــرتَهــا آنفــاً، ليـسـت هي الأشيـاء الــوحيـدة الـتي تعـطي قـصيــدتي طابع"الهنـدسة""، بحسب تـسميتك . انها احــدى نــواتج تـلاقح الأجـنــاس، عـنــدمــا تـصـب بـبــؤرة واحــدة، وهــذا، كـمــا أعـتقــد، بـنـــاء تـعلـمــته، دون وعـي، مـن الــسـيـنـمـــا ولـيــس مـن الـكـتـب، إذ لـم تـكـن في بـيـتـنـــا مكـتبــة. الــسيـنمــا، في ذلك الــوقت كــانت، بالـنسبـة لي، وربمـا لجيلي، مـلجأ وحـيدا، بل وخلـيقــةً بكــاملهــا، قـيــاســا بــالقحـط الاجـتـمــاعـي والعـمــر الـضــائع والــوجــود المـنقــطع علــى كل المــسـتــويــات. عـبــر تـلك الشاشـة وفي ظلمة القـاعة الصغيـرة كانت حياة أخـرى تمر أمام العين وتتغير . وعبر هـــذا الــتغـيـــر كـنـت أنـــا أيــضـــاً أتغـيـــر مـن الـداخل، كنت، بمجـسات العقل والعـاطفة وبميـزان الأشيــاء التي بـدت شبه غـامضـة يـومذاك، أتهجس اولـيات الفروق الـقائمة بــين حــضـــــارتــين، دون ان ادري، مقـــــارنـــــاً ومـتــســائلًا، عـن آلآف الاشـيــاء الـتـي تقف في طــــــريقــي وتمــنعــنــي مــن الإحــــســـــاس بالسعادة.
لقد قـلبت الصـورة دواخلي وحـرثتهـا منذ وقت مـبكـر، والــسيـنمــا، كمـا تعـرف، بلـورة سحـريــة، مخـيلــة يجـمع الـســرد في سيـاق واحـــد . ان الكــادر الــسـيـنـمــائـي الــواحــد غــاصٌ بـكل اجـنــاس الـتعـبـيـــر، وفي داخله نعثر عـلى اجمل المحاصيـل، هناك الضوء والـظل واللون والصوت والموسيقى والبناء الــتــــــشــكــيـلــي والــــــســــــــردي والإيـقــــــــاعــي و..و..و..وكل هــــذا يـكــــون له رنــين خــــاص عندما يتفاعل مع مخيلة حساسة تعيش للـشعــر. ويبـدو ان هـذه الـرؤى العجـائـبيـة إخـتُــزنـت في اعـمــاقـي لـتـتــســرب بعــدئــذ، وبعفـويـة، الـى الادب، وليـس عجبـاً اذن ان افــرح إذ أُحــس ان مفهــوم الــشعــر القــديم بـدأ يتـكسـر في قصـائـدي، فمـا عـاد الـشعـر جنسـاً ادبياً واحـدأ، بل هو الكـلي بجماله، الـذي يحـوي كل الأجنـاس، وهنـاك اشيـاء كثيـرة تبـدلت فـيه: مثلا، الايقـاع والـشكل وتـــــركــيــب الجــملـــــة والــنــــسق والـــســيـــــاق والــتفعـيلــة والـيقـين والـبلاغــة المـنـبــريــة، لتحل محلها، بعـدئذ، وإنْ بشكل، متقطع علاقات النثر، الكولاج، اللاوعي، الهذيان، التيارات العموديـة الحارة والباردة Parad digme، وكل مــا يـصـنع نـسـيجــا ســاخنــاً لـلغـــــة ويعــطــي قــيــمـــــة للـــشــكل ويــــؤكــــد اسـتقـلاليــة النـص ويحــوي حتــى مــا هــو محتقـر مـن قبل الخـائفين مـن التجـريب في المـناطـق الحرة. مـئات الـعدسـات صارت تقـــوم، بـــسلــطـــة المـــونـتـــاج، بـــالــتقــطــيع المفاجئ، لـتحصل، فيمـا بعد، علـى معادل ذهـني وقــد تـطــورت هــذه الـعنــاصــر داخل إطـار الـكتـابـة الـسـتيـنيـة، علـى يــد أجيـال جديدة وصولًا إلى عصر الأداء الفضائي، امـــــا العــنــصــــر الــــدرامــي فقــــد احــتفــظ بـــــراهــنــيــتـه . إنه احـــــد اركـــــان حــيـــــاتــنـــــا الـعــــــراقــيــــــة، مــــــا دام الــيــــــأس لا يـقـهــــــر. والتحدي هنـا، هو الخيار الوحيد المتروك لـلحــيــــــوات الـــصغــيــــــرة المــبــتلاة بـلعــنــــــة كلكامش!!
وإن كانت صادق الصائغ في الأدب والفن قد بدأت في الخمسينيات، إلا انها نضجت وبرزت في الستينيات، يقول عن الستينين هذه المدرسة التي تعد علامة تاريخية في الثقافة العراقية:
- التغـييـرات الـتي حــدثت في الـسـتيـنيـات شـكلــت انعــطـــافـــاً جـــذريــــا، لا في العـــراق فـحـــــســب، بـل في كـل الـعـــــــالــم، وكــمـــــــا ان الـثلاثينيـات في الغرب شهـدت انعطـافاً في الشعر على يد عـزرا باوند وإليوت، شهدت الــسـتـيـنـيـــات شـيـئـــاً ممـــاثـلًا في العـــراق. الانعـطــاف حـصـل في الأفكــار والـسـيــاســة والاجـتـمــاع والفـن والادب، والــســؤال كــان كــونيــاً: هل الحــريــة الـتي تــأسـسـت بثـمن حـربين عالميـتين احتوت عـدالة اجتمـاعية في الـنــظـــامـين الجـبـــاريـن المـتــصـــارعـين، الــرأسـمــالـي المـتـمـثل بــأمـيــركــا والغــرب، والاشتـراكـي المتـمثل بـالاتحـاد الـسـوفيـتي وأوربا الشرقية؟ هل هذه هي حدود الامل الإنسـاني، أم ان هنـاك مخرجـاً لحلم آخر تنتـجه الحركات الثوريـة في العالم الثالث او في البلـدان الاوربيـة المتقـدمـة صنـاعيـاً، كمـا تـوقع مـاركـس؟ علـى ايقــاع مثل هـذه الاسـئلة كانت الستينيات في العراق ايضاً، تـسجل يـوميـاتهـا، مـستـطلعـة ومـشـاركـة . الــنــظــــريــــات الـكــبــــرى كــــالــــراســمــــالــيــــة والاشتـراكية تـعرضت لـنقد جـذري، وعلى مـستـوى عــالمي ظهـر يـسـار جـديـد يـنتقـد الـستـالينـية والـتروتـسكيـة واللينـينيـة، بل وظهر مـن ينتقد الماركـسية نفسهـا، كونها، بعــــد ان قــــدمــت نقــــدا فـــــذاً للاقــتــصــــاد الـــرأسـمـــالــي في القـــرن الـتــــاسع عــشـــر، عجــزت، بعــد وفــاة مــاركــس، عـن ان تقــدم بــدائل يـتــأســس علـيهــا نـظــام اشـتــراكـي انسـاني يـصلح للقـرن العـشريـن. وفي هذا الــسـيــــاق حفـــرســـؤال روزا لـــوكــسـمـبـــرغ الالمــانيـة عـن معنـى الحـريـة وحـدودهـا في الهـيكـليــات الفكـريــة العــالميـة وفي الجـدار اللـيـنـيـنـي بـشـكل خــاص، فهل هـي حــريــة تلك الـتي تكـون امـتيـازا لـطبقـة واحـدة – طبـقة البـروليتـاريا- وهل يـصح ان يتمتع بهــذه الحــريــة حــزب واحــد فقـط ؟ ولمــاذا يجب ان يكـون هناك حـزب واحد للـطبقة العـاملـة، فـإذا صـار لهـا حـزبـان فلابـد من ان يكـون أحدهما إنـتهازياً ؟ هكـذا ناقشت روزا لــيــنــين، في وقــت مــبـكــــــر مــثـل هــــــذه القـضــايــا التـي اصبـحت اجــابــاتهــا اليــوم معـروفـة وبــديهيـة، ولقـد تـسـرب وقع هـذه الأسئلـة الـتي تـعمقـت بتقـادم الــزمن الـى الحـيـــاة العــربـيــة المـتـــوقفــة عـنــد حــدود الاسـتـبـــداد الــشـــرقـي والـــدكـتـــاتـــوريـــات القــوميــة، واشتــرك المثقـف النقــدي اثنـاء الفــراغ الــسـيــاسـي الحـــاصل بعــد مجـيء حكـومة عـبد الـرحمن عـارف، وإنْ بخجل، في الــنقـــــاش الـــــذي اثـقلــته مـــــداهــنـــــات الاحــــزاب الــــوطــنــيــــة، قــــومــيــــة كــــانــت ام يسـارية. وفي هـذا السيـاق ظهرت تـرجمات لغـــرامــشـي والـتـــوســـر وشـــارل بـتـلهـــايم وغـارودي ومـاركـوزا وسـارتـر وآخـريـن كثـر، واثـناء الحـرب الفيتنـاميـة ظهرت حـركات معــارضــة مـثل الهـبيــز والـليـبيــز عــارضــة تجـديــد الحيــاة تحت شعـار"اصـنع حبـاً لا حــربــاً"، كـمــا ظهــرت الجـيفــاريــة والمــاويــة والـفهـــــود الــــســـــود والألـــــويـــــة الحــمـــــراء والمقـاومــة الفلـسـطيـنيـة وبـرزت الحـركـات الطلابية في فرنسا واوروبا كقوة مؤثرة في اللعـبــة الــسـيــاسـيــة وتجــرأت حـتــى علــى سارتـر بقولها: إخرس ياسارتر! .كما برزت شخــصيــات طـلابيــة مثـل جيــري روبن في امريكا وطـارق علي في بريطـانيا ودوتشكه في المـــانـيـــا وغـيـــرهـم. أمــــا في حقـل الفـن والادب فقــد ظهــرت مــدارس مـثل المــوجــة الجديدة في السينما والرواية الجديدة في الادب ومــســرح العـبـث في المــســرح والـبــوب آرت في التــشكـيل، ولـم يحــدث ان تجمـعت ارادة تغـييـر مـؤكــدة مثل هـذه الارادة الـتي كــانـت تتــوقع ظهــورغــودو آخــر لا يـسـتنــد الــى نـظــريــة يــائــســة، بل الــى فعل ثــوري يفتح باب الامل.
كل هذه التغيـيرات أثرت في العراق كما في الــبلــــدان العــــربـيــــة الاخــــرى، فــــانـــشقـت الاحـــزاب وتـتـــالـت الانـقلابـــات وتـنـــوعـت الافكـار وجـرت مـراجعـات لهـزائم حـزيـران وتهـافتـات الخطـاب القـومي وكل مـا فكك الجسـم الاجتمـاعي وخـرب بنـاه التـحتيـة في حـــروب مـتـتـــالـيـــة عـــابـثـــة. وهـــذا كـله انـعــكـــــس في الـــــســيـــــــاســـــــة والاقــتـــصـــــــاد والاجتماع، وكـان طبيعيـاٌ ان ينعكس ذلك كـله في الأدب والفـن، وقــد افـتـتـح ذلك، في رأيي جــواد سلـيم، خــاصــة في عـمل"نــصب الحــريــة" الــذي اوصـل الفـن، حـتــى قــبل الـسـتيـنيـات، الـى بـوابـة الحـداثـة، مـدخلًا الـتــشـكـيـل العـــراقـي الـــى ســـاحـــة القـــرن العـشــريـن، لكـن الــذيـن اقـتحـمــوا ســاحــة الحداثـة وراهنـوا عليـها كحل اكـيد، كـانوا، كـما هـو الحال في كـل انحاء العـالم، اقلـية من خـارج المركـز، وفي بعض الاحـيان تـأتي الحــداثــة من مــدن او قــرى صـغيــرة ليـس لها ماض او تراث تتعصب له.
وبهذا يقول عن الشعر إن كان يــشكل له امـتيـازاً ؟ أو خسارة ؟ أو تعويضاعن حياة ؟
- لا اعــرف مـن قـــال ان الكـتــابــة فــرار الــــــى عــــــالــم آخــــــر . قــــــد يـكــــــون هــــــذا صـحــيـحــــــا اذا اعــتــبــــــرنــــــا ان الحـلــم الانــســـانـي هـــو الإسـم الآخـــر لـلعـــالـم ألـــــــذي يهــــــرب الـــــشــــــاعــــــر الـــيه . وفي الحقيـقة ، لا شيئ يشكل تـعويضا عن الحيـاة غيـر الحيـاة نفـسهــا ، ولا شيئ يعــوض الانـســـان عن وعـيه بخـســارته عندمـا يعي ان الحياة ازلية وهو زائل. الشعـر هنا ، يشـكل بعض تعويض عن الفـشل الانـســاني ، والـى حـد مــا ، عن المـوت العــابث . لـكنه- الـشعـر- يـزودنـا في كل الأحـوال ، بُمقـاومـة نـبيلـة ضـد عصـر تكبـر فيه التـكنولـوجيا ويـتمزق فيه قلب الانسان..
في التشكيل لخص الناقد حسن عبد الحميد ولع الصائغ به، نقتطف منه ما كتبه :
يفرط الشاعر-الرسام(صادق الصائغ)في تبسيط ملاك بنود موهبته التشكيلية اليقظة على نحو ما يعين سلامة الجهد وبراعة الخبرة في توضيح مساعي استنهاضاته البصرية الأخيرة في الرسم وبالأخص المعرض الشخصي المقام على قاعة أكد للفنون-بغداد شباط/2013 التي حاول من خلاله يفرط الشاعر-الرسام(صادق الصائغ) في تبسيط ملاك بنود موهبته التشكيلية اليقظة على نحو ما يعين سلامة الجهد وبراعة الخبرة في توضيح مساعي استنهاضاته البصرية الأخيرة في الرسم وبالأخص المعرض الشخصي المقام على قاعة أكد للفنون-بغداد شباط/2013 التي حاول من خلالها الإقرار بقيم عتيدة وعنيدة استدعت حالات وصور لأحلام يقظة وأخرى لتصورات حسية أصر على ترجمتها بمثول وعي تجسيدي وقصدي تمكن من ملامسة واجتياز حاجز صعوبة طبيعة التعامل الصوري- الإنشائي لقيمة اللوحة المنجزة في أول تماهيات حضورها وصراحة تمظهراتها العيانية على شاشة الكمبيوتر(فوتو-شوب) كنماذج للوحات حية نابضة بوجودها التأويلي ومقومات أفعالها التطهيرية بمجسات الوصول إلى قاع روح(صادق الصائغ) التي كثيرا ما حلقت (محاولات عديدة سابقة) بأجنحة استنجادها بالحرف عبر العزف على أوتار حنينه وتشكلاته النوعية قرابة أكثر من نصف قرن،
لكنها-هنا- في قرارة مهابة هذا العرض الاستثنائي المبهر تسعى لان تغور عميقا في مناسيب ثوالث وعي جمالي خالص برع في أن يتمركز في مسالك (الخط/الرسم/التصميم)دون حواجز ومحددات فاصلة جرى تمثيلها بعناية وخبرة وحذر محسوب لصالح تثمين لوامس حدسه التبريري بانتزاع لوحات خاصة قريبة جدا من عوالم وفضاءات (الصائغ) لحظات انتخائه بالحرف نهجا وتعبيرا أضحى معروفا في قاموس وأطلس هذا الفنان المخضرم،بل استدار بجد وجهد واضح نحو تعميد وترسيخ سبل مهارات لعب تضليلي حاذق عبر توريد استمالات نفسية واستجابات حسية جانبت مستويات متعددة للوحة الواحدة من ناحية تبني الفكرة وجرأة الموضوع ودقة المعالجة من أجل الاحتفاظ بقيمة المدلول التشكيلي مع فائض قيمة الحاجة للحرف متمثلا في جوهر التعامل الضمني مع مستلزمات إنتاج وتصميم اللوحة التي كان يصبو إليها الفنان،وما كان يبغي في منح المضمون-إن جاز التعبير-الشفاعة والحجة في تمرير إغواءاته عبر نوافذ إقحام مقومات وعيه الكامل أملا مؤكدا بتحويل الأشكال والرموز والعلاقات وكل ما يساند استثارة السطح التصويري للوحة واستنطاقها بروح عذبة مسالمة وطرية زادت من وهج ألوانه الحارة والصريحة وتناغمها الأمثل مع درجات اللون الأخرى كي تعمق من وجود علاقات وصراعات درامية تواثبت مع نفسها و تنامت بفعل رغبات التحليق في سموات وفضاءات ما كان يطمح ويريد-وهنا أجد أن أعيد مجددا- بأن (صادق الصائغ)في الكثير من أعمال معرضه هذا ظل متمسكا بمهابة التعامل مع تجليات الحرف وعذوبة تطويعه لمرامي ونوايا تلك الاستجابات الروحية والنفسية التي وسمت تجربته.
كانت السينما بداية اهتمامات الصائغ، وتزامنت مع ترسخ بدايات هذا الفن في العراق، ناقدا، وكاتبا سيناريستا، ومخرجا. يكتب الناقد علاء المفرجي في هذا الصدد:
قد لا يعرف الكثير إن لصادق الصائغ انشغالاً بالسينما منذ أكثر من 4 عقود، لا يمكن لمتابع أن يتجاهله، وهو يتقصى إبداع الصائغ، تؤثر وتتأثر باهتماماته الأخرى بما يسميه هو (تلاقح الأجناس)، فالنمط الدرامي، والصورة البصرية تكاد تسم انشغالاته الإبداعية الأخرى بتأثير من السينما التي كانت كما يقول ملجأه الوحيد..
في بداية الخمسينات تظهر له مقالات نقدية في السينما مع آخرين ،مثل سعاد الهرمزي، ويوسف العاني، وسامي عبد الحميد، لتظهر بعدها مجلة (السينما) كأول مجلة متخصصة في هذا المجال والتي أسسها المخرج العائد تواً من أميركا كاميران حسني، لتشيع ثقافة السينما الأميركية بنجومها وأفلامها الآسرة حين ذاك.. ويكلف الصائغ في إدارتها الفترة المتبقية من عمرها، قبل أن تتحول على يديه أيضا إلى مجلة (الفنون) التي كتب فيها عدد من أعلام الثقافة في العراق أمثال جيان، عبدالله حبة، محمد كامل عارف ورشدي العامل وحتى الشاعر الكبير السياب.
لم يكتف الصائغ بالعمل في مجال النقد السينمائي.. فكان مشروعه في اختيار قصائد لشعراء عراقيين وعرب، وتقطيعها سينمائياً إضافة إلى تجسيد الشخصية الرئيسة فيها. ثم تعرض في حلقات تلفزيونية، وكان من بينها قصيدة (غريب على الخليج) للشاعر بدر شاكر السياب.. إضافة إلى قصائد لمحمود درويش وسميح القاسم.. وآخرين.
وإسهامه الفعلي الأول في السينما الروائية كان في كتابة سيناريو فيلم (المنعطف) الذي أخرجه الراحل جعفر علي عن رواية (خمسة أصوات) للروائي الكبير غائب طعمة فرمان.. وهو الفيلم الذي أثار جدلاً من جهة معالجة الرواية سينمائياً.. ومدى أمانة المعالجة للنص الروائي، ففي حديث خاص مع الصائغ أخبرني ، أن النص المعد قد (أفرغ من أحشائه).. إشارة إلى أن المخرج الراحل قد تعسف في التعاطي مع النص، وبالذات في ما يخص الحقائق التاريخية.. وأيضا في مجال الإشارة إلى مواجهة الأعراف والتقاليد السائدة.
وكانت للصائغ تجربة جديرة بالإشارة في التلفزيون من خلال برنامج (البرنامج الثاني) وهو البرنامج الذي حقق شهرة كبيرة أثناء عرضه بداية سبعينات القرن الماضي على المستويين الفني والسياسي، مما أدى إلى إيقافه بعد عرض حلقات منه بأمر من رئيس الجمهورية آنذاك..
وقد لا يعرف الكثير إن للصائغ تجربة في مجال السينما الوثائقية من خلال فيلمين هما (مفتاح للوطن)، و(صهيونية عادية) اللذان نفذهما لحساب التلفزيون الجيكي. وهما الفيلمان اللذان صنعهما بعد خروجه من العراق 1979.
وحسناً فعل ملحق عراقيون الذي يصدر عن المدى إذ يخصص عدده هذا اليوم للشاعر والفنان صادق الصائغ.. فهو بذلك يعزز مشروعه بتوثيق أحد الأسماء المهمة في الثقافة العراقية.