د. نادية هناوي
يحدد سلمر برينجورد وديفيد فيروتشي في كتابهما (الذكاء الاصطناعي والإبداع الأدبي داخل عقل بروتوس: ماكنة رواية القصص) ثلاثة أسباب تحملهم على الاستمرار في مشروع ( عقل بروتس) والمتمثل في صناعة مؤلف اصطناعي أدبي ذي أنظمة يراد منها أن تكون مبدعة. اثنان من الأسباب نظريان وواحد عملي. فأما السبب النظري الأول فهو استثمار الوقت والمال والموهبة في البحث عن آلة تكون مبدعة حقا وتجيب عن سؤال ما إذا كنا نحن أنفسنا آلات.
والسبب النظري الثاني بسيط وواضح ويتمثل في رفض الاعتقاد بأن المنطق مغلق إلى الأبد وبعيد عن العالم العاطفي للإبداع. فبروتوس -بحسب المؤلفين- في الأساس شخصية لا تعرف العاطفة، لكنها مع ذلك تبدو محتواة ضمن نطاق أشياء تمس ليس فقط عقولنا ولكن أيضًا قلوبنا.
والسبب العملي الثالث هو أن عمل الآلات جنبًا إلى جنب البشر في مجالات تتطلب الإبداع، له قيمة لا يمكن قياسها. كأن تكتب الآلة رواية كاملة وقوية، أو تؤلف فيلما طويلا، أو تنشئ قصة متطورة وتدير عملية اللعب فيها عبر الإنترنت ولكن إذا كان بالإمكان التقاط الجانب الإبداعي من الإدراك البشري بواسطة الحوسبة، فمن المؤكد أن عملية الالتقاط بأجهزة الكمبيوتر هي مجرد عملية محاكاة لا أكثر. ومن ثم فإن الإبداع البشري أبعد ما يكون عن عمليات الحوسبة الرياضية.
ولقد أخذ فيروتشي على بعض كتب الذكاء الاصطناعي خلوها من أية إشارات إلى الإبداع البشري، وتساءل هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدير شركة مثل IBM للحواسيب والبرمجيات؟ وأجاب أن الإبداع البشري متواصل عبر الأجيال، وتحاول كل قطعة تكنولوجية أن تتبع هذا التواصل وتقلده. وهذا يعني أن الآلات تحاكي ما صنعه المبدعون من أدوات كالساعات والمصابيح والهواتف مثلا، وفيها بصمات آلاف الأجداد المهندسين في كل ما اخترعوه وأبدعوه مثل توماس اديسون والكسندر غراهام بيل والان تورينغ وستيفن جوبز. وما كان للبشر اليوم أن يمتلكوا الروبوتات والحواسيب لولا لمسات العبقرية البشرية المبدعة.
إن هذا التواصل في الإبداع ما بين البشر والآلات هو ما يصمت مورافيك إزاءه، وهو ما يحاول مؤلفا الكتاب موضع الرصد التدليل عليه متسائلين: أين هي مختبرات الذكاء الاصطناعي التي فيها تقوم الآلات بابتكار الأشياء؟ أين هي المختبرات التي تقوم فيها الآلات باختلاق فروع جديدة من الرياضيات، وأنماط جديدة من الموسيقى، وروايات عظيمة، ونظريات علمية جديدة، وما إلى ذلك؟
لا شك في أن السيارات التي يتحكم فيها الذكاء الاصطناعي قد تبدو أكثر أمانا من نظيراتها التي يقودها البشر وروبوتات التشخيص الطبي التي تفوق بدقتها جميع الأطباء البشر تقريبا باستثناء عدد قليل جدا منهم. ولعل قدرات الآلة الذكية تصل إلى مستوى يغدو من غير العقلاني اللجوء إلى طبيب بشري. وعلى الرغم من ذلك، فان سؤال الإبداع الأدبي ما يزال قائما؟ فهل يمكن لروبوت أن يحاكي أفلاطون او شكسبير او تولستوي؟ هل يمكن له أن يصل إلى مستوى عبقريتهم ويماثل مرتبتهم؟ بعبارة أخرى هل يمكننا أن نبني آلة مبدعة حقا؟
إن الإبداع الأدبي ليس مجالا علميا يمكن لمختبرات العمل البحثي أن تبتكر فيه ما هو جديد ومن ثم يبقى هذا الإبداع صخرة لا يضرها تقليد الروبوتات لها، ومن يرد صناعة إبداع آلي فسيشفق بنفسه على نفسه حتما بسبب ما سيكلفها به من فعل ليس لها من سبيل إليه.
هنا يستعرض المؤلفان مجموعة آراء لباحثين تتعارض رؤاهم مع فكرة المزاوجة بين المنطق والإبداع، وأول الآراء لآدا لوفلايس التي جادلت بأن الآلات ليست مبدعة حقا إذ ليس بإمكانها سوى تنفيذ ما كانت قد بُرمجت لأجل القيام به لا أكثر. ومن ثم هي لا تبتكر أفكارا جديدة، بل تعالج المعلومات المرقمنة بالاستناد إلى أوامر محددة سلفا. وإذا ما اجتازت الآلة اختبار تورينغ، فإنها تبقى عاملة ضمن الحدود المبرمجة لها والمقيدة بها.
وإذا كان اختبار تورينغ غير مجد في إثبات صحة المزاوجة بين المنطق والإبداع، فان اختبار تورانس للإبداع في التفكير هو في رأي برينجورد وفيروتشي أكثر نجاعة بوصفه أداة تقييم معروفة لقياس الإبداع البشري. ويقوم عملها على اختبار قدرة الأفراد على التفكير في استعمال الأشياء المعتادة بطريقة إبداعية؛ فعلب الصفيح مثلا يمكن أن تحمل الفرد على ابتكار الجديد من خلال تجريب إعادة تشكيلها.
ولقد جرَّب المؤلفان استعمال هذا الاختبار في تقييم ما إذا كان بإمكان الآلات أن تنتج قصصا جديدة من تلك التي أنتجها الإبداع البشري عبر إنشاء ( وكيل إبداعي صناعي) قادر على إنتاج قصص إبداعية تجتاز اختبار تورانس للإبداع في التفكير. وليس هذا الوكيل سوى" عقل بروتوس" المصمم ليكون له دوره في إنشاء قصص ناجحة فيها تتجلى تعقيدات عمل الآلات.
وأول تجربة في هذا الصدد تتمثل في أن يتنافس الإنسان مع الآلة على كتابة قصة قصيرة جدا، إذ يتلقى كلاهما جملة أساسية وما عليهما سوى البناء الإبداعي عليها. والتحدي يكمن في ما إذا كانت القصص التي تنتجها الآلة متميزة إبداعيا عن تلك التي يكتبها الإنسان. وعلى الرغم من ذلك يعترف المؤلفان أن الآلات عادة ما تنتج إبداعا ضعيفا. وأن تحقيق الإبداع القوي( الأصيل) لا يزال يمثل تحديا كبيرا. الأمر الذي يتطلب فهما دقيقا ونهجا جديدا في كيفية أداء الآلات للوظائف الإبداعية مع التركيز على تطوير أنظمة يمكنها دمج الأفكار بطرق جديدة وإنتاج نصوص يعدها البشر إبداعية.
إن الغاية من تصميم " عقل بروتوس" هي تلبية ما سماه المؤلفان "الرغبات السحرية السبع" لإنشاء قصة ناجحة، وتتمثل في: 1/ الرغبة في تقديم حسابات دقيقة للإبداع فيها يكون الذكاء الاصطناعي مثيرا للإعجاب وهو يسرد قصصا جديدا. 2/ الرغبة في توليد الصور في عقل القارئ اعتمادا على ما يصنعه الوكيل الاصطناعي من محفزات ذهنية لدى القارئ تدفعه نحو التأثر والاستجابة. 3/ الرغبة في تأطير القصة بوعي سردي اصطناعي يكشف عن الحالات الذهنية للشخصيات. 4/ الرغبة في الفهم المنطقي لموضوعات الأدب الجميل العاطفية والانفعالية كي يتمكن المؤلف الاصطناعي من معالجتها كما في موضوع ابدي مثل الخيانة. 5/ توليد قصص ذات موضوعات بها يثير المؤلف الاصطناعي اهتمام القراء كما في موضوعات الجنس والمال والموت والموضوعات الكلاسيكية مثل الخيانة والطموح والحب من طرف واحد. 6/ الرغبة في الوصول إلى الهياكل العميقة والدائمة للقصص( قواعد القصة) بما يجعل المؤلف الاصطناعي مدهشا وهو يتمكن من إنتاج هياكل قصصية تماثل هياكل القصص البشرية. 7/ الرغبة في تجنب الأسلوب الآلي في الكتابة وبالشكل الذي يجعل المؤلف الاصطناعي قادرا على إنتاج سرد أدبي جذاب.
وعلى الرغم من الطموح الكبير الذي يسعى إليه الباحثون عن أدب اصطناعي يضاهي الأدب البشري، فإن مؤشرات تحقيق " بروتوس" لهذا الطموح مخيبة للآمال. ذلك أن المنطق هو الحائل دون تنفيذ هذه الرغبات السحرية.