فخري كريم
تثير الحركات الاحتجاجية في أنحاء مختلفة من البلاد، تساؤلات تبدو متناقضة، من حيث مضامينها ومنطلقاتها. فالمظاهرات المعبرة عن هذه الحركات،
تستقطب شرائح وفئات من الأوساط الأكثر تضررا في المجتمع، وهم الفقراء المعدمون، والمهمشون من العاطلين وضحايا الحروب والإرهاب،
بالإضافة إلى المثقفين المغيبين عن المشهد السياسي ومراكز القرار، والشبيبة من الخريجين والمتعلمين، وهم يشكلون أكثرية عمرية في المجتمع العراقي، وأبناء الشهداء والأرامل.
الملفت أن أوساطا واسعة من بقايا وأشباه الطبقة الوسطى يشكلون شريحة فاعلة في هذه الحركات الاحتجاجية المتنامية.
ومن لا يعرف، فأن هؤلاء، مجتمعين، يمثلون الجزء الفاعل من الأكثرية "الصامتة" التي تبدو في مراحل "السكون القسري" لا مبالية، ومطواعة، يشلها العجز والقهر.
هذا ما تتسم به أيضا قاعدة الحركات الاحتجاجية "الثورية" التي اجتاحت كلا من تونس ومصر، وتزحف بقوة "تسونامي" نحو أقطار عربية أخرى، انتهكت كرامتها ونهبت ثرواتها أنظمة الاستبداد العربي الشمولي، كما هو الحال في ليبيا العقيد، ويمن العقيد الآخر عبد الله صالح، وغيرهما من البلدان المرشحة التي "تكمن" قواها، لتستكمل "تحفزها" وانطلاقتها المباركة.
وإذا كان لمصر تميزها من حيث ظروف نمو ونضوج الحركة الجماهيرية فيها، في ظل انفتاح نسبي "تخديري" لاحتواء المعارضة، فإن تونس شكلت "نموذجاً" لطمر الحركة السياسية المعارضة، عبر "شكلانية ديمقراطية" مموهة بتدابير "تحديثية" تنطوي على قمع مستور منظم لتفكيك اطر الحركة السياسية الديمقراطية.
غير أن الأوضاع في كل من ليبيا العقيد القذافي، ويمن العقيد صالح شديدة الشبه بعراق صدام، وليس هذا التشابه مجرد استقراء شكلي، فقد أبدى علي عبدالله صالح في أكثر من مرة إعجابه بمستبد العراق، وعمل جاهدا لاستنساخ تجربته الشخصية في الحكم، واستعان به في التوحيد القسري لليمنيين وبقوته الجوية، ولم يتردد بعد سقوطه من احتضان عناصره القيادية وكوادر حزبه وبعض عناصر مخابراته وأجهزته القمعية التي من الممكن أن يستفيد من خبراتها في قمع الانتفاضات.
ويكفي العقيد القذافي دفاعه المتهالك عن صدام حسين، ومحاولته "النبوئية" ترويع الملوك والقادة العرب في مؤتمر القمة الذي أعقب إعدامه، بأن مصيرهم سيكون مثل مصير طاغية بغداد، إن هم لم يتخذوا الموقف المناسب ضد النظام الجديد في العراق. كما انه انفرد بلا حياء في العمل على إقامة نصب تذكاري للطاغية في أهم ساحات طرابلس، غير عابئ بأوسخ الصفات التي كان يلصقها به صدام طيلة مدة الحرب مع إيران.. لقد وضع النصب ربما ليتذكر هو شخصيا ما ينتظره من مصير، إذا لم يشدد من قبضته على الشعب الليبي الأسير.. وتشير أنباء الأمس انه يستفيد فعلا من الخبرة الدموية لسلفه صدام، حيث تتحدث التقارير عن استخدام المدفعية الثقيلة ورشاشات الطائرات العمودية ضد محتجي بنغازي.
لقد تفنن السادات ثم مبارك بخطوات متدرجة في إعادة صياغة المعارضة رسميا "وتهجينها".
واستكمل علي زين العابدين ما أسس له بورقيبة من عوامل "تغييب" المعارضة وتهجيرها بوسائل "حداثية".
وعمل علي عبد الله صالح على استدراج المعارضة "وتكييفها" في إطار "ديمقراطيته العشائرية" و "خدعة" الوحدة اليمنية التي سرعان ما اكتشف أبناء الجنوب أنها مجرد "احتلال اخوي".
أما صاحب الجماهيرية "الاشتراكية" العظمى والكتاب الأخضر المتهافت، وهو بالمناسبة الدستور الفعلي لليبيا، بل ولعشيرته من حكام أفارقة وأحزاب وشخصيات عربية وآسيويين ممن يتلقطون أرزاقهم من العقيد، فلم يتوان عن "تخوين التحزب"، وهذا بحد ذاته يكفي لتصفية أي تحرك يجمع أكثر من بضعة أشخاص.
لكن المفارقة المثيرة التي غابت عن هؤلاء الحكام، وآمل ألا تغيب عن قادة العراق الجديد، أنهم "أهملوا"، بل لم يخطر ببال احد منهم، بسبب قصورهم السياسي، أن القوى الكامنة في المجتمع، "تنام" على ضيمها وتكظم غيظها بعض الوقت، لكنها يستحيل أن تقبل الموت جوعاً، وامتهانا للكرامة، ومصادرة الإرادة "إلى الأبد" كما يحلو للمستبدين أن يحلموا بخلود سلطانهم وتوريثه للأبناء والأحفاد.
إنهم "لخيبتهم" وحسن طالع شعوبهم، لم يكتشفوا أو يتعرفوا على فاعلية "الأكثرية الصامتة" التي تشكل مركز ثقل المجتمعات وقلبها النابض، برغم مظاهر سكونها الكامن.
ولخيبتهم أيضا وبسبب الأفق المحدود لهم ولمنظريهم، ظلوا يواجهون "العولمة" من موقع الجاهلية التي رمزت لها بعران كسر الانتفاضة الثورية في ساحة التحرير.
ظل هؤلاء الحكام وغيرهم لا يرون في العولمة "الموضوعية" في تطورها التاريخي، غير طابعها العسكري في جانب منها، حيث تتسيد الولايات المتحدة والقطبية الواحدية، وتهيمن على العالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية"الاشتراكية".
تجاهل هؤلاء، مثلما نتجاهل "نحن" هنا، المنجزات العظيمة لهذه العولمة، وهي نتاج ابتكار البشرية كلها، وليس كما يدعي القومانيون ودعاة الإسلام السياسي المتخلف بوصفها "نتاجا غربيا"، يصدر لعالمنا، بهدف انتزاع هويتنا وخصوصيتنا، وكما لو أن الدكتاتوريات والاستبداد لم تدمرها.
إن الحجر على "عقول" الناس، ومصادرة ضمائرهم عبر "الاحجيات" العجائزية، وإطلاق الفرمانات لقمع الحريات وملاحقة الناس في حياتهم الخاصة وفي أمور معيشتهم باسم المقدسات التي هم غرباء عنها بسلوكهم المنظور، إن مثل هذا الحجر، لم يعد ممكنا مهما حاول البعض من أشباه الرجال المستورين مؤقتا بلباس المسؤولية المتسلطة.
فاكتشافات الإنسانية العظيمة من وسائل اتصال، ومعلوماتية وشبكتها العنكبوتية، وفرت للأجيال الطالعة مصادر العلم والمعرفة والمتابعة اليومية للرقابة على الحكام والسلطات، كما وفرت لها وسيلة التواصل والتفاعل في ما بينهم بعيدا عن أعين الرقباء والسلطة.
وتوفر هذه الوسائل مصادر التعرف على المستور في حياة أدعياء الورع والتقوى الذين يسرقون المال العام، ويواصلون تعدياتهم على حريات المواطنين وكراماتهم، كما توفر فرصة الإطلاع على "المستور" من سلوكهم الحقيقي.
التناقض في الحركات الاحتجاجية، أنها تبدو في جانبها الأبرز مظهر معافاة ووثوب ويقظة، "ونواة" بلورة حركة ديمقراطية غيبها الاستبداد طوال عقود عن الفعل المقرر في الحياة السياسية، ولكنها من الجانب الآخر المحتمل، مجال لقوى مضادة، أسهمت ظروف التجهيل والقهر في تخليقها وتغييب ما سواها، وهي قوى تنوي إجهاض هذه الحركة وتضييق أفق تطورها الموضوعي.
لكن هذا التناقض، لا يمكن أن يشكل تهديدا للحركة أو انتقاصا من شأنها، لما تنطوي عليه قواها الحية والفاعلة من وعي عميق بحكم رصيد تجربتها التاريخية، وبقوة استشرافها للأثر الايجابي لتكريس النظام الديمقراطي بثوابته الأساسية على مستقبلها.
إن هذه "الأكثرية الصامتة" التي انطلقت تحت ضغوط الحرمان والعوز وغياب الخدمات والتضييق على الحريات، تنتظر الرعاية والاحتضان، لأنها قد تشكل قاعدة تطور التجربة الديمقراطية في البلاد.
إن المتخوفين من حركات الاحتجاج والملوحين لها بتهم الوصاية عليها من "الخارج" والمتطيرين من أمثولتها في التحدي من أجل الحق، نسوا في حمى الفساد المستشري وما يرفقها، قولة الإمام العظيم علي بن طالب:
"إذا ذهب الفقر إلى بلد، قال له الكفر خذني معك!".
وقولة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري:
"عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، لا يخرج إلى الناس شاهراً سيفه".. وقد تكون الناس ليست بحاجة الآن إلى سيف قدر ما هي تحتاج اليوم إلى صيحات احتجاج..
فيا لها من مقاربة وتوصيف !!