TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية :حول مفهوم الديمقراطية..بين الشعب والسلطات..ثقافتان في حالة تصادم

الافتتاحية :حول مفهوم الديمقراطية..بين الشعب والسلطات..ثقافتان في حالة تصادم

نشر في: 28 فبراير, 2011: 10:28 م

 فخري كريم

-1 -

كما هو الحال في معظم دول المنطقة فإن الدولة العراقية لم تألف عبر تاريخها نظاما ديمقراطيا، بمعنى نظام يتوفر على بنية مؤسسية

ومنظومة تشريعية وبيئة سياسية اجتماعية متكاملة ديمقراطيا ويمكن الاعتداد بها بين الأنظمة الديمقراطية التي عرفها العالم في أماكن أخرى غير منطقتنا.لا يمكن أن نسمي التجربة النيابية في العهد الملكي على أنها تجربة ديمقراطية، أو حتى مرحلة مؤسسة لديمقراطية قابلة للتطور والنضوج..

كانت تلك التجربة شكلا فوقيا لهضم التصارع بين مراكز قوى تشكل بمجملها حواشي للسلطة الملكية، وكان الهامش المحدود لقوى ليبرالية وطنية لا يكفي لإسباغ صفة الديمقراطية على النظام آنذاك..فيما كانت ملايين العراقيين لا صلة لها بذلك التكوين السياسي الملكي الهجين ولا بديمقراطيته المزعومة..

وحتى تجربة ما بعد 1958 والتي كانت وعدا بحياة أخرى، وبنظام برلماني وبدستور يحفظ الصفة الديمقراطية للدولة، حتى هذه التجربة لا يمكن الآن التعويل عليها، فهي، ولظروفها المعروفة والتآمرات التي أحاقت بها ولضعف خبرات العسكر في الإدارة وألاعيب السياسة، بقيت بحدود الوعد الذي أنهته الدكتاتورية الفاشية بانقلاب 1963.

لقد كنا مبكرين بدخول مرحلة حركة التحرر الوطني وأنظمة الديمقراطية الثورية..وكنا مبكرين أيضا في خسارة الديمقراطية من جانب وخسارة الثورية من جانب ثانٍ، وذلك بصعود قوى، مزجت ما بين الفاشية السياسية وطغيان النزعة العسكرية ورغبتها بالاستئثار بالسلطة، وهو الحال الذي انتهت إليه معظم، إن لم نقل جميع، تلك التجارب التي ابتدأت بنزوع ثوري للتحرر وبوعود لبناء دول وطنية محترمة وتحترم مواطنيها، وانتهت إلى هيمنة أفراد أو أحزاب أعادت التاريخ والدول والمجتمعات إلى ما قبل العصر الحديث.

دخلنا في التنازع بين مراكز الاستقطاب الدولي، أو أُدخِلنا فيه، وكانت الحصيلة متماثلة بالنسبة لمن شاء الوقوف مع القطب الأمريكي والأوربي، إيران الشاه مثلا، ولمن شاء الوقوف مع القطب السوفيتي الاشتراكي، مصر عبد الناصر مثلا، فالبلدان، وهما مثالان قابلان للتعميم، لم ينجحا في التأسيس لدولة ليبرالية ديمقراطية (إيران) ولا دولة اشتراكية ثورية (مصر)..وقد انتهيا إلى مركزية شمولية دكتاتورية، الشاه وعبد الناصر، انتهت إلى ما انتهت إليه.. ولم يكن العراق بعيدا عن هذا التوصيف الذي عاشه بشكليه، في الملكية وما بعدها، وانتهى إلى أبشع أنماط الدكتاتوريات التي سحقت بطريقها كل شيء: الدولة والقوميات والطوائف والحزب والعائلة، وصولا إلى تدمير نفسها وسلطتها.

في الكثير من المراحل كان الوعي الاجتماعي منشطرا بين التعبير عن حاجته إلى الحريات وبين احتقاره للديمقراطية وتوصيفها على أنها نظام سياسي لحماية القوى المستأثرة بالسلطة..فيما كانت الحياة الحزبية المحلية، بوصفها حاضنة لنزعات المعارضة والاحتجاج ضد القمع والطغيان واحتكار السلطة، تزهد، هي الأخرى بتقاليد العمل الديمقراطي داخل الحياة الحزبية، لتكون الانشقاقات والانقسامات داخل الحزب الواحد معادلا لانشطار الدول وتمزقها وتفتتها على أيدي السلطات.

لقد بقيت الديمقراطية مجالا بعيدا عن متناول الدولة، كما هي بعيدة عن أنظمة الأحزاب..وبالتالي فهي بعيدة عن التفكير الاجتماعي.

كانت المعارضات تذهب إلى مفاهيم، من مثل العدالة والحريات وتكافؤ الفرص والاستقلال الوطني..وكان لاحتكار اليسار الاشتراكي أولا واليمين الإسلامي ثانيا لشارع المعارضة الوطنية، ولظروف تاريخية لها صلة بنضج المجتمعات والوعي، مسؤوليته عن غياب الثقافة الديمقراطية ومن ثم السلوك الديمقراطي في ثقافة المجتمع.

وفيما كان العالم في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات في القرن الماضي يقف على صدمة الانهيارات الكبرى في دول أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي، وهي انهيارات يتحمل جانبا من مسؤوليتها الجمود العقائدي للسلطات وطغيانها وتخلفها، وتحول الإرادة الشعبية هناك نحو أشكال لم تتبلور بعد من الديمقراطية..في هذا المناخ، كان العراق ينحدر على يد الدكتاتورية في نفق التدمير والاستبداد وشهوة الحرب والتمدد ومن ثم تحطيم كل شيء والإجهاز على ما تيسر من بنى دولة كانت تريد أن تكون حديثة على المستوى المعماري والتعليمي والصحي في الأقل.

انتهينا إلى لحظة 2003، سقوط دولة وانهيارها، واعتماد على قوة أجنبية لاجتثاث دكتاتورية لم تنفع أنهار من الدم العراقي في اجتثاثها وإنْ أنهكتها وقوّضتها وعرّت دمويتها، مؤسسات محطمة..وبلد بدا مشرع الأبواب على كل الأفاقين الضائقين ذرعا بحياة الطغيان في أوطانهم ووجدوا في العراق المحتل فرصة للموت والانتحار، وبالتالي العمل على تعويق فرصة يريد العراقيون الإمساك بها كعزاء عن ماض تولى وحاضر محطم، أملا في مستقبل أدركوا أن لا قيمة له من دون ديمقراطية.

دخلنا هذه اللحظة بعد عقود من الانغلاق عن العصر..عقود شهد فيها العالم أعظم الثورات: ثورة الجينات وثورة الاتصالات وانفجار المعلومات والعولمة..

دخلنا لحظة.. وأردنا بها أن نعود إلى العصر..وبفعل خبرتنا الباهظة مع دكتاتورياتنا وحرماننا وظلمنا وتهميشنا وعزلنا وجدنا أنفسنا نضع أيدينا على خيار الديمقراطية..إن خبرتنا التاريخية مع مصائبنا كانت كافية لتهدينا إلى قيمة الحرية، حريتنا مع أنفسنا ومع بعضنا ومع الآخرين..

اخترنا الديمقراطية..وكان علينا جميعا أن نتبارى مع بعضنا من أجل أن نكون بمستوى اللحظة التاريخية، أن نكون ديمقراطيين ومؤسسين لديمقراطية كثيرا ما احتقرناها، وكثيرا ما نأينا بأنفسنا وأحزابنا وعائلاتنا ومجتمعنا عنها.

كانت كل معضلة نواجهها بعد 2003 اختبارا لديمقراطيتنا.

وما أكثر معضلاتنا بعد 2003..

أردنا أن نعوض غياب السلطة ونشكل سلطة وطنية، فعاد كثير منا إلى فكرة الاستئثار وكسب كل ما يمكن كسبه من سلطة يراد تأسيسها..فكانت الفكرة الديكورية لمجلس الحكم، إلى جنب حاكم الاحتلال المدني بريمر وأخطائه أو سوء نياته القاتلة!!

بدأنا، مع مجلس الحكم، بزرع بذور التحاصص الذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بتمثيل المكونات..

احتجنا إلى دستور ينظمنا ويفصل في ما بيننا، فجعلناه  حمّال أوجه ليرضي الجميع ويغيظهم على حد سواء.

وبدأنا مع هذا الدستور نراكم مشاكلنا..

لا ديمقراطية بلا انتخابات..ولا انتخابات بلا قانون..

لفلفنا قانونا ينظم الانتخابات..لا مثيل له مفصلا لاستيعاب وتثبيت المحاصصة، وليس تمثيل المكونات.

وحتى إذا ما أجرينا الانتخابات، واختبرنا قانوننا..عدنا واحتلنا عليه بالجلسة البرلمانية المفتوحة..

قلنا لا بأس..هذه حياة سياسية تنتظم بتطور الخبرات ومرور الوقت..لكن لدينا ثروة لنطورها، لدينا النفط..لتتحرك الحياة ومعها يتحرك كل شيء..فأحبطت إرادات ومصالح الجوار، عبر ممثليها المحليين، مشروع قانون النفط والغاز وأرجأته على رفوف البرلمان..

لقد وضعنا أنفسنا في (ديمقراطية) تعيق أكثر مما تيسر..

لم تكن المشكلة في الديمقراطية..كنا ندرك أن المشكلة في مكان آخر، في النوايا ولا اطمئنان الكثيرين ورغبة آخرين في فرض الرأي والذات، الذات التي تستعير تسمية المكونات، طوائف وقوميات وأديانا، شعارا لتمرير المصالح الحزبية والشخصية والأسرية..

أرجأنا التفكير بقانون للأحزاب..وجميعنا يدرك أنه لا يمكن لانتخابات ديمقراطية ومؤمنة بقيم الديمقراطية من دون قانون للأحزاب..دخلنا انتخابات ومن دون هذا القانون..

ولو عدنا إلى قوانين الكثير من الأحزاب لوجدنا أنه ( قانونها) وإستراتيجية عملها لا تستقيم والديمقراطية..تفكير شمولي ورؤية لدولة شمولية ما زالا يتحكمان بمفاهيم كثير من الأحزاب التي تنظر إلى الديمقراطية كدابة يجري العبور على ظهرها إلى الدولة الحلم.

كانت المشكلات تتراكم..وكان الشعب ما يزال يثق بالأفق الذي تطلع إليه بعد 2003..لكننا الآن أمام لحظة حاسمة، لحظة العراق والمنطقة بعد 2011..فأين نحن؟

 التتمة بعدد الغد

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram